سنة النشر : 08/11/2008 الصحيفة : اليوم
.. الأعذارُ والتبريراتُ هي اللغةُ التعبيريةُ للفشل. وجاء اللواءُ حامد الجعيد ليفضح تآكل تلك اللغة.. لأن مهمته هي حماية الناس، كمديرٍ للدفاع المدني بالمنطقة الشرقيةِ.
جاء الجعيدُ بصراحةٍ نادرة، وبلغةٍ واضحة، وبأصبع يشير بلا ترددٍ ولا وجَلٍ ولا مجاملةٍ رسمية لموقع الخطأ.. فأصحابُ الضمير يقدِّمون ما يمليه الضميرُ لا ما تمليه الوجاهاتُ والمصالح.
والضميرُ هنا يقول واجبك أن تحمي الناسَ من الأخطار في كل مكان، إنها مسئولية أرواحٍ، ومحاسبة سماوية قبل كلّ شيء.. ومن الواضح أن اللواءَ الجعيد يقوده ضميرُه بحزمٍ وإصرارٍ.. وهذا لن يعجب بعض المسئولين الذين تعودوا لغة الأعذار والتبريرات، المسئولون الذين عيونـُهم مركـّبة فوق رؤوسِهم فلا يرون إلا من هم أعلى منهم، ولا يعلمون ولا يكترثون لبقية الناس على الأرض..
هذا الطبْعُ المكتبي الرسمي يجب أن ينتهي، وكدنا نحسب أنه صار عادة وديْدَنا ولن يغيب في القريب، فيأتي اللواءُ الجعيد، ويبدأ بكشف الستار.. ويبدو أن اللواءَ الجعيد لن يشكل صداقات قوية مع تلك النوعية المتساهلة من المسئولين ومع غيرهم من أصحاب المصانع والورش والمخازن والبنايات الذين لا يأبهون كثيرا لدواعي الأمان في منشآتهم، وميادين أعمالهم، ويساوي بين الجميع في الإفصاح واللوم والتحذير، وسيصطدم مع أصحابِ لغة الفشل، وهم مبرّزون جدا في مهارات التبرير والنفي، ولو كان خطؤهم بحجم الشمس في رابعة النهار.. على أن الجعيدَ كما يبدو ماضٍ بمهمتِهِ، ومهمتـُه سامية، ونرجو أن يواصلها بذات الشجاعة, فلن يكون المرءُ بضميرٍ قوي إن لم يتسلـّح بقلبِ أسد.. ويثبت الجعيد حتى الآن أنه ضميرٌ يقظ، وقلبٌ باسل.
في هذه الجريدة قرأتُ تحذيرَه عن نفق الدمام ( الذي قد يُسَجـَّل من عجائبِ الدنيا في روعةِ أخطاء الهندسةِ الإنشائية، وربما أخذ مكان برج بيزا المائل..) وكان تحذيرا مفاجئا، وليس مفاجأته أنه مجافٍ للواقع، بل أثبت عين الواقع، ولكنه قالها صريحة مانعة قاطعة: « النفقُ لن يصمدَ في موسم الأمطار»، إنه يحذرنا من كارثة، ومن يحذر من كارثة قد تقع حقيقة، قد يزعج ويربك كثيرين من أصحاب العلاقة، والمنصفون لن يندموا أبدا حتى لو بالغ الجعيدُ في حمايتنا، ولن ينفعَ الندمُ لو تهاون في حمايتنا، والجعيد يفهم ذلك جيدا..
الجعيد ليس من المسئولين الذين يحذّرون ثم يقول اسمعوا واشهدوا، بل هو يتابع المواضيع، ويحدّد الخللَ ليس فقط في تخصصه الدفاعي المدني فنيا، بل حتى في الأداءِ السلوكي للمهنةِ والوظيفة، ففي خبر عنه في هذه الجريدة بالأمس أشار إلى قوله:» لو كان هناك مصارحة وشفافية لاستطعنا التغلب عليها – أي إلى مشاكل المباني المدرسية وصلاحية سلامتها-» وهنا بردٍّ انعكاسي تلقائي صفقتُ متحمّساً.. إنه يقول بلا مواربةٍ أن الصراحة والمكاشفة والشفافية ليست هي السائدة.. ونادراً ما ترى مسئولاً يقوده ضميرُه إلى هذه «الصراحة والمكاشفة والشفافية» العامّة.. ولا أظنه تصريحاً عفو الساعة، «اللواءُ ضمير» ربما قصد بحكمةِ الدهاةِ الطيبين بعـْثَ رسالةٍ لكل مسئول وصاحب منشأة، أن أي مسألة فيها تهاون أمني لن تكون فقط حبيسة النقاش المكتبي، والحوار الرسمي المغلق.. بل ستجد طريقها للمجتمع المفتوح.
وهنا سيحسب كل مسئولٍ ألف حساب.وهو لا ينسى أنه رجلٌ حكومي كبير، فشهادته تتعدى أثراً أي خبرٍ أو تعليق ناقِدَيْن يُكتـَبان في الصحفِ أو يجريان في الإعلام. الضميرُ ليس مريحاً دائما، واللواءُ الجعيد سيدفعُ ثمنَ هذا الضمير الشغـّال في جوفِه، فقد يخسر علاقاتٍ أنيقةٍ ومجاملاتٍ بخوريةٍ، وقد يُعاتـَبُ ويُشكى ويُلام..
ولو حاول أن يخفف من صراحتِه وغيرته لقام ضميرُهُ بذات العمل وأقوى في اللوم والتقريع والمساءلة.. اللواء ضمير، الجعيد، قرر أن يرانا نحن.. وأن يحمينا نحن، كلنا.. مهما كان الثمن، فلا ثمن عنده يوازي حياة إنسان أو مضرّته، ولا يساوي عنده، لو تهاون لحظة، وخزةَ ضمير!
الرجل الذي قال بلا قطرةِ ماءٍ بفمه: «أفضل ألا يتعلم أبناؤنا وبناتنا، ويبقوا أميين، بدل أن نغامر بهم في مبانٍ آيلةٍ للسقوط..» رجلٌ لا يمكنك إلا أن تـُعجَب به، وتثق به.. وتثق بنظامٍ يعمل به ومن أجله.