التحرّر

سنة النشر : 25/10/2008 الصحيفة : اليوم

 

.. أثبتـَتْ «فدوى الصالح»، السيدةُ الشابة التي سهـّل اللهُ لها الولادةَ مؤخراً، أن كلّ واحدٍ فينا يستطيع التحرّر من اسر التقاليد الطقسية غير المجدية .. لنكتشف أن التغيرَ والتطورَ هما من أدواتٍ داخلية في كينونتنا، وفي أرواحنا، لكنا قلـَّما نبحثُ عنها، أو لا نحاول أن نصل إليها .. لذا تنغلقُ وتضمرُ مع الوقت، ومتى تـُركت الأدواتُ المزوَّد بها الإنسان مع الوقتِ تتلاشى وظائفـُها، فنعتقد أنها غير موجودة، بينما هي في تركيب نسيجنا الحيّ ..

ومن واقع هذا الاكتشاف لمصادر الحب والخير يتولـّد الإبداع المثمر، والإبداعُ المثمرُ قد يقوم به شخصٌ واحد، وبعملٍ قد يظنه صغيراً، أو أنهُ بلا مجهودٍ، أو بأنه مجرد خاطرةٍ، والحقيقة ما يبدو لنا على سطح الذهن من تلك الظواهر، إنما هو نتيجة إعْمَالٍ طويلٍ من التجهيز، وتبادلاتٍ حيويةٍ طويلةٍ معقدة .. لا نشعرُ بها، ولكنها تعمل .

وعندما نصل إليها قد نصل لاكتشافٍ يغير واقعَنا، إِمّا واقعنا الصغير، أو واقع العالم الكبير .. كلّ من بدأ عملاً إبداعياً خيِّراً جديداً، هم من سجلتهم الإنسانية بكتاباتٍ من ضوءٍ في ديوانِها الخالد .. قد يكون من صفحاتٍ كاملةٍ، وقد يكون العملُ سطراً صغيراً منحشرا .. ولكنها، كلها، خامتها الأحادية هي النور .. نورُ المبادرة المثمرة .. فيشرق العملُ كإشراقةِ شمسٍ بعد ليلة مظلمة وطويلة .

«فدوى الصالح» بمجرد فكرة، خاطرة، ولكن صادقة ومبدعة وخيّرة قرّرتْ أن تغيرَ واقعاً اعتدناه حتى أدمناه، طقسٌ من الطقوس التي نخترعها لأنفسِنا، أو نقلدها من المجتمعات الأخرى ثم نتمسك بها كما يتمسك النـُسـّاكُ بالأقداس .. وهي لا تؤخر ولا تقدم . بل ربما تؤخر ولا تقدم . بطلتنا اليوم هي من أثمرَتْ ورودُها خيراً وعطاءً ماديَيْن، بعد أن كانت الزهورُ في حالتها لا تنتج إلا ضياعَ الأموال، ثم موتا محققا بعد ايام لزهراتٍ نـُزعَت من أغصانِها ..

«فدوى الصالح» بعد ولادتها أعلنت لكل من يحب أن يسعدها ويفرحها ويظهر لها الحبَّ الحقيقي، أن لا يحضروا معهم، كما جرت العادة الطقسية، باقات الزهور، وهي عادة غالية الأثمان، وتزدحم غرفة الناقِهِ أو السيدة الواضع بباقاتٍ من الزهور تضيق عنها المساحة والهواء ..

صحيحٌ أنها تضيفُ جمالا، ولكنه جمالٌ في سبيل الذبول، ورودٌ برسم الموت .. ولا تنفع ولا تبقى ولا تُدَّخَر . فدوى تمنـّت على محبيها أن يقوموا مشكورين بأن يُستعاضَ بالنقود عن باقاتِ الزهور، وطلبت من لجنةِ التنمية النسائية بالثقبة أن تحضر لغرفتها إحدى عاملات اللجنة مع صندوق مخصص لجمع هذه النقود ..

والجميلُ أن الناسَ ومحبي فدوى استجابوا .. والاستجابة كانت جماعية، وهنا جمال الأمر؛ سانحةُ خيرٍ بلحظةٍ قد لا تقاس بالزمن، ولكن الزمنَ يسجلها بالأثرِ والتوابع .. فالأمُّ الشابة استنـّتْ تقليداً جديداً معطاءً وخيِّراً، وكأنها قائدة يمشي من ورائها الناسُ، هذا تماماً وبدقةٍ واقعيةٍ ما جرى، لقد رصفـَتْ سِكـّة ثم سار عليها الناس .. وهم من الفرحين .

الصندوقُ كتبت عليه جملة أسعدت فدوى، وأسعدت كل يدٍ امتدت ووضعتْ مالا في ذاك الصندوق، والجملة هي بمباشرة قلبية بسيطة «هديتك تبني فردا» وهذا لم يكن كلاما يجري في متون الإنشاءِ التعبيري، بل واقعا حقيقيا لأن المالَ يُساق لتنمية من يحتاج للتنمية في الثقبة .. فتبني إنساناً كان معرّضا للسقوطِ والضياع، لولا تداركته تلك الأيادي البيضاء في الصندوق الأبيض ..

لذا نتمنى من اللجنةِ أن تعمِّم تجربة وخاطرة فدوى الصالح تحت اسم «الصندوق الأبيض» ويسجل أنها من بنات أفكار فدوى . والمفاجأة التي أذهلت الجميعَ هي لمّا فـُتح الصندوق .. فالمبلغُ المحقق فاق كل التوقعات، لقد بلغ بالتمام والكمال أربعة وعشرين ألف ريال وفوقها جنيه من ذهب .. مبلغٌ يصنع الكثيرَ في طرقِ الإنفاق التي تتبعها اللجنة بحرص .

فرحةُ «فدوى»، كما وصلني، كانت لا توصف .. ومن يلومها ؟ بل نغبطها، فقد أقلـّتها أجنحةُ السعادة إلى أسمق فسوحاتِها . فإنّ لعمل الخير والنفع الذي يراهُ المرء بعينه سعادة تفوق كل اللذاتِ الأرضية .

أنجبت فدوى طفلة .. وطفلتها، بإذن من سوّاها، جاءت ومعها عنوانُ حياتِها : حياةٌ بيضاء، وصندوقٌ أبيض !