الإهمال البشري

سنة النشر : 14/10/2008 الصحيفة : اليوم

 
عِبرتي اليوم: لا تقلل أبدا من قوةِ الإهمال البشري! لأن الإهمال حكم مؤقت بالموت، لا تدري متى ينفذ، ولكنه سيقع. إنه ما دام لم يحدث- حتى اللحظة- فإنه كسيف إقليدس المعلق فوق رقبته سيهوي ليجزّ رأسَه بأي مباغـَتـَة.
 
أرى واجباً علي أن أبدأ رفع التحية لجريدةِ «اليوم». أنا فخورٌ بجريدتي أكثر مما مضى، رغم تأثري وحزني، ورغم ما كنت وما زلتُ أريده لها لتتبوأ مقاما أعلى بين الصحف لا في المملكة والخليج بل في العالم العربي.
 
ولولا أن الجريدة نشرت يوم أمس، وعلى صفحتِها الأولى، خبرَ المروحةِ العملاقة ِالتي سقطتْ على إنسانـَيْن سعوديَّيْن، لزادتْ غصّتـُنا بأن حياة الإنسان تـُهدر في الخفاء.
 
ولم يأتِ خبرُ الجريدةِ مبكرا، طازجاً في وقتِه، لذا دار بالانترنت ألف روايةٍ ورواية، وكنتُ أُعِدّ نفسي، لولا وعكةٍ مانعةٍ، أن أذهب كمواطنٍ له الحق أن يسأل عن حال أخيه المواطن، إلى إدارة الجسر لتحري الحقيقة، ولكن وإن جاء خبر الجريدة متأخرا نوعا ما، لكنه جاء مُفْصِحا، ونُشِر بما يستحقه من فظاعةِ النتيجة، في الصفحةِ الأولى، وتثبت الجريدةُ قيمة إنسانية كبرى، فوق التلامس المباشر بالوعي الصُحفي الإعلامي الإحترافي، وإن كان كما يقولون لكلّ حدثٍ حزين وجه للسعادة والتفاؤل، فهو ما فعلته الجريدة أمس باقتدارٍ وثقةٍ وإنسانيةٍ وعدل.. ورقـَتْ الجريدة أمس بالناس معراجا بمساحةِ الأمل!
 
عائلة الرميجي لن تنسى أبدا ما جرى لابنيها، ويجب ألا ننسى نحن. فالرميحي عائلة من عوائلنا، من أهالينا، من منطقتنا، وما حدث لهم كان ممكنا أن يحدث لأي من عوائلنا، بسبب هذه القوةِ العمياءِ .. الإهمال.
 
لم نعلم بدقة حالة ابنـَي الرميحي الصحية فكثيرٌ من الشائعاتِ راج، واختلفت الأقاويل، ولكن الجريدة تعطينا أملا في أن هناك دعوات للحياة في جسديهما، وهذا يعطينا واجب الحثّ على الدعاء لهما. لقد دفع ابنا عائلةِ الرميحي عنا الثمنَ بالدم الحي، بالألم القاصم.. لكي يفضحا أمامنا عمقَ عدم وعينا للصيانة.
 
فنحن قومٌ ظاهريون في الإدارة.. انظر إلينا ونحن في موقع المسئولية ترانا بأكمل هيئةٍ، وببشوتٍ لامعةٍ، وغـُتـَرٍ منشـّاة، وإهابٍ طاووسي صارم، وتجدنا ضاحكين لامعي الوجوه، متقدي الذهن أمام الإعلام، ونتفنن في إقامة ديكورات الاحتفالات الخاوية، ونتقدم طوابير ضاربي الوعود التي هي كسراب في صحراء، كسُحُبٍ خـٌلـَّبٍ، ويا ويل من يقاطعنا أو يكذبنا.
 
ولو وقعتْ مروحة على رؤوس المستمعين.. فالخطأ عندها سيكون خطأ الرؤوس! لا أدري ولا أعلم ولا أفهم لمَ يغيبُ عن إدارةِ هذه الأمّة مفهوم الصيانة، وكأن الصيانة لعنة نتجنبها، وعارٌ نتفاداه، شيطانٌ نروغ عنه كي لا يراوغنا؟ ولو أننا أزلنا، امتثالا لما نراه على الواقع، إدارات الصيانة لكان أشرفُ لنا، وأعلنا أن اداراتنا خالية من الصيانة، كما تـُعلِنُ الأممُ المتقدمة أماكنَ خالية من التدخين. من يعلم؟ فربما ثبت عند مسئولينا أن المالَ مضرٌ إن صُرف في أعمال الصيانة، لذا تقع جسورُنا، وتتساقط أسقفُ مدارسنا، ويسقط باب على طفل في مدرسة وهي لتوها في جِدّتها الأولى.
 
لن أطالبَ بأن يستقيل الكادرُ الإداري في مؤسسة الجسر، فهذا من أعمال الشجاعة وتحمل المسئولية التي لا تصير إلا في بلدان تكون فيها الشجاعة مذهباً للمسئول والشعب.. ولأكُن واقعيا وأطالب بشيء من أجل الله أولا، ثم من أجل كادر الجسر حتى يناموا هنيئا في الليالي، ولا يرتجفون من يوم يسائلهم فيه من هو أعظم قدرا من الناس ومؤسسات الرقابة والقضاء الأرضي.. وهو أنهم يجب أن ينخرطوا ويتدخلوا في العمل الذي يؤتمنون عليه بأنفسهم لا أن يقبعوا في مكاتبهم الفاخرة - وللمفارقة- الجيـِّدة الصيانة  فبدون ذاك التدخل والانخراط بعين العمل في الموقع والإجراء اليومي فلن يكون هناك التزامٌ مهما حلفوا بالعهود . ضعوا خطاً تحت ذلك، ارسموا دائرة حوله : لا تدخل وانخراط يعني لا التزام.
 
ونثبت أننا سادة في ردودِ الأفعال لا توقع الأفعال، ولا التخطيط بعد الأفعال. ما الذي فُعِل بعد أن وقعت المروحة؟ أزيل باقي المراوح .. فقالت المروحة كل شيء عن طبيعة فكرنا الإداري.
 
بقي أن المتظلم للجريدة من آل الرميحي يطالب الآن بأن يصل للبحرين بيسر.. وهنا كدت أكسر لوحة المفاتيح التي أكتبُ عليها.. ياناس، لو حملتوه على ظهوركم لما جازيتموه.
 
يقول: إنه سيقاضيهم .. حسنا يفعل، وأرجو ألا يثبت أن الخطأ القاتل من الضحيتين نفسيهما فهما الذان تعمدا أن يقفا في موقع سقوط المروحة!