رفّةِ
سنة النشر : 08/10/2008
الصحيفة : اليوم
.. إنه يومُ الأربعاء.
وأرجو أن تريحوا عقولـَكم المتعبة، وقلوبـَكم المجهدة، وتـُشرِعوا أجنحةً تطير في أفقٍ متحرّرٍ من كل قيدٍ أرضي لأحكي لكم عن «رفّةِ».. حبيبتي! كنتُ متعَباً ميـّالاً للمللِ والتبرّم، لأمرٍ جرى وأنا خارج البلادِ، وكنتُ أبثّ أحزاني لصديقٍ أثيرٍ من النوع النادر الذي يتبنـّى أحزانـَك أكثر منك.. قال لي: «اخرج من الحالة..»، وكان لا بد أن أخرج.
وبفضل نصيحتِه، عرفتُ حبيبتي، رفّة. قيل لي: أفضلُ مكانٍ لمتعةِ العين والروح، هي حديقة الفراشات.. فذهبت. والفراشاتُ من أفانين الجمالِ، وأدلّة الإبداع في هذا الكون، فهي ليست مخلوقات مترفة الجمال للعين وحسب، ولكنها انعتاقٌ تصوّفي تتعانق فيها روحُك وبقيةُ حواسِّك مع الإلهام الكوني العِلـْوي، وتنطلقُ نغـَماً في معزوفةٍ لا مكانيةٍ ولا زمنيةٍ، تُغـْنِي القلبَ، وتُثري الوجدان، وتطهِّر الذائقة، وتُرِقُّ النفسَ، وتصبحُ كورقةً غصنٍ هفهافةً في بساتينَ متدثرةٍ بالخضرةِ والزهرِ والضوء.
يا لأناقةُ هذه الكائنات المجنـَّحة (وما أغاظني، إلا لوحةٌ تقول: «لا تُصِد هذه الحشرات».. حشرات؟! يا عديمي الرومانسية!).. وفي عقليةٍ تميل للتخيلِ الأَسْطوري بدَتْ أمامي كمجنـَّحات الضوءِ اللاتي كن ينقلن السناءَ والحبَّ في الميثالوجيا..
وجدتُ في هذه الكائناتِ الرفرافةِ، الحوّامةِ، المتغطرسةِ بجمالٍ أخـّاذ، المتدلـِّلةِ بأكسيتـِها المفعمة باللون والشكل، لوحة من الإعجاز المتناهي الذي يعصرُ قلبـَك حتى تجدُ جُهـْداً وأنت تقبضُ الدمعَ من هولِ الروعة.. تأتيني الفراشاتُ فرادى تارة، وتأتيني تارة كمجموعاتٍ من النـُجَيْمات، وتتهافتُ بانزلاقٍ في الهواءٍ كأنها مذنّباتٌ بلورية تجوسُ في الفضاء..
ثم تنقلك برفقٍ لذلك النقاءِ الالتحامي مع مظانّ الجمال، وتفكُّ قيدَكَ من الجاذبيةِ الأرضية بثقلها الحتميّ على أجسامِنا الماديّةِ وكتلتِنا الحيـّة.. وترى أنكَ روح تطوفُ وترفرف في عوالمَ إشراقيةٍ من الأضواء التي تتماوج بها هاته الكائنات وتنسحبُ على بحيرات الألوان البيضاء والحمراء والبنفسجية، بومضاتٍ من محفلٍ لوني، يفيضُ ويكبرُ ليهدرَ طوفانا مترَفاً يغمرُ الدنيا بسيولٍ حريريةٍ تجرفُ أطرافَ الأحاسيس وتصِلُ لأعماق الشعور.
وكنت أتابعُ فراشةً بذاتِها.. تتراقصُ على تاجِ وردة، ورغم الجمالِ الفائقِ حولها تفوق الأخريات بألوانِها الوردية المتفرقة، الخادرة على مخملٍ رماديٍّ لمّاع.. كانتْ أكثرهن دلالا، وأدقـّهن تهويما، وألطفهنّ رفـْرَفة، وأغنجهنّ حركة، تميلُ وتقرب منـّي حتى يهفّ نسيمُ أجنحتِها على بشرتي، فما أن يرمُشَ جـِفني حتى تهيبُ متراجعة برفرفةٍ راقصة وكأنها تريد أن تتقرب وتبعد في آن.. طبعُ الفاتناتِ!
سمَيْتُ محبوبتي الفراشة «رفّـة».. كانت أقربهن لقلبي، ولا بدّ لها من خصوصيةٍ وتمييز، وتجاوب قلبي، وكأن «رفة» ترفرفُ في داخلِه، وتولهتُ بها بتولـِّعِ المُدْلـَه، وكنت أسرقُ النظرَ لتلكَ اللوحةِ الشرسة أمام عيني فأحاذِرُ أن ألمسها.. لأضعها على يدي، أتقربها ولِهـَا.. إلا أنها تابعَتْ الحومانَ نجمة صغيرة تسكبُ عليّ سحرَها لتنشلني من مأزق الانسحابِ النفسي، وتـُمطِرُ عليّ رشاشاً من عطرٍ وجمالٍ واحتواءٍ فاتن..
أتأمـّل هذه اللوحة الربانية.. فلطالما غمرتني مع كائناتِ ربّي هذه الغشوة الإيمانية الجمالية، ولطالما زدتُ تفـَهُماً كيف يسبّح كل ما في الكون اللهَ، إنه تسبيحُ الشكر على الحُسْنِ المنطلق، على الروعة المتسامية إعجازا، وعلى الاقتدار الذي يتعدى كلّ التخوم..
وتعلمتُ أننا نتواصل مع المخلوقاتٍ بشكل أو بآخر، ولن آبه للجفافِ العلمي البيولوجي، فهناك بحارٌ أثيرية تواصلية تستيقظ عليها كلُّ عناصرِ الكون.. على أن البشريّ يملك إرادةَ استيقاظه، ولكنه لا يحفل كثيرا بهكذا صحْوة..
كان الأصيلُ بدأ يرشـُقُ الأفقَ برشـّاتِهِ الصَهْباء، وكانت «رفّـة» تتمايلُ على تاج زهرتِها.. ثم خفـَتـَت هفّـاتُ الجناح، وانثنى القرنانُ الصغيران، وكأنها تريد أن ترسلَ لي وداعا حزينا..
فهل يا ترى بادلتني «رفّـةُ» الشعور؟! .. كل ما أعرفه أني غادرتُ، وتركتُ نبضةً من قلبي فراشةً، ترفرفُ بجوارِ رفـّة!