المعلق الغامض
سنة النشر : 16/08/2008
الصحيفة : اليوم
لا، الموضوعُ ليس ما يدل عليه العنوانُ اليوم.. آسف.
الموضوع عن شخصٍ غامض وعبقري يعلق بانتظام على مقالاتي بهذه الجريدة، ويسمي نفسَه (اليوم) بالحرف الأجنبي. والعنوان هو تعليقه على مقالةٍ لي خرجت عن الأبناء المتروكين بالخارج، وعباراته عميقة وقصيرة ومعبرة.. حتى أنه، بيني وبينكم، لو لم تكن منشورة «لاستعرتها» لنفسي بدون الإشارة إليه. فقد عبّر المعلقُ الغامضُ على مواضيع عدةٍ لي، بعباراتٍ ساخرةٍ، عميقةِ الذكاء، تجعلني أحارُ في هذا العقل الذي يخاتل منتظما أنيقا في الظلام وترى شبحَهُ يقفز برشاقةٍ بين الأفكارِ والعباراتِ ثم لا تقبضُ إلا الظلَّ، ويطير الأصلُ وراءَ الظنّ.
كتبتُ عن البنت السعودية فاطمة من أم مصرية، والتي أتت لتكمل أوراقها الثبوتية حالمة بالمجيء لبلدِها الأصلي، ولقاء إخوتها من أبيها، وظنت أنها أيامٌ تكملُ بها أوراقـها لما سمعت – كما قالت لي- عن كفاءةِ وسرعةِ الأداءِ الرسمي السعودي، ثم تعود إلى أمِّها التي لم تتركها طيلة عمرها ولا لحظة إلا للذهابِ للمدرسة والعودة منها، ومعها بطاقة الأحوال (الهوية) التي طلبتها منها الجامعة المصرية لتكمل دراستها.. لم تكن تعرف ولا في أشد كوابيسها رعبا أنها ستـُحبَس في منطقةِ التيهِ ثلاث سنواتٍ، فتنقطعُ بها الطرقُ، فلم تعد تستطيع العودة لمصر لأمها، ولا دخول الجامعة، وينهمرُ مستقبلـها كالترابِ يتسرب من عمرها، ولم تعد تزاملها في وحدتِها ووحشتِها إلا الدموعُ والحسرات.. والسبب أن «اللجنة لم تجتمع» هذه اللجنة التي لا تجتمع لإنقاذ أرواح مثل فاطمة بمعاذير لا نفهمها ولا نقبلها، ولكنها تعزز من نفور أبنائِنا منا ومن بلدِنا.. تكاد فاطمة تحلف بالله أنها إن خرجت فلن تعود.. بينما كان كل حلمها أن تزور يوما بلدها الأصل، بلدها الأم. نيابة عن بلدِنا، نيابة عن مجتمعِنا، قامت اللجنةُ المحترمة بإرسال رسالة مرّة علقمية وحشـَتْ بها قلبَ البنتِ السعودية التي الآن يذبحها الحنينُ لمصر البلد الذي آواها. وصاحبي (اليوم) المعلق الغامض، عميقُ الإدراك بالشعورِ الإنساني، ويعرف طبيعةَ الاجراءاتِ هنا، فهو يعلق: «أن الاعتمادَ على اللجنةِ ليس ضرباً من الحكمة.»، وأعطى الحلَّ لفاطمة:» أسهل لفاطمة أن تأكل الحبلَ حتى تصل لأعلى البئرِ من أن تنتظر اجتماع اللجنة.»
ووقع التعليقُ في قلبي مثل شظيةٍ متشعبةٍ، من أين يحضر هذا (اليومُ) هذه التعليقات القوية والعميقة ؟ وكيف يملك هذه المهارة العقلية والمرونة اللغوية والرؤية النفـّاذة ؟ صرت أتابع هذا (اليومَ) بتعليقاته البرقيةِ الساطعةِ، تلمع بقوةٍ وبسرعةٍ قبل ان تختفي وقد تركت الأثرَ كاملا..
ثم إني سألتُ نفسي: هل أتابعه لأني أغار منه، لأنه يملك من الفهم وسبر المعاني أكثر مما أملك؟ ربما.. وأقنعتُ نفسي بأن هذا المعقـِّبَ الغامضَ إنما يضفي على مقالاتي ويكسوها ما ينقصها من قوةِ التأثير، ومدى الإبلاغ، وكأنه يعزفُ المقطعَ الأخير في حفلٍ أوبرائي، أو ينهي القفلة الأخيرة في كتابٍ تسيلُ منه الحواشي.. كإسدال ستارٍ على المشهد النهائي الذي يتوّج كامل القصة.. وجدتُ أنه يساعدني كي ترتفع المقالة لدرجة أعلى وأرقى.. وأعطاني مثلا بازغا كيف تكون قدرة هذه العقول المتوارية.. ويذكرني بالقمر الذي ينير، ليس من تلقاءِ نفسِهِ، ولكن بسبب الشمس المتوارية في الجهةِ الأخرى من السماء.. إذًا هو ضوءُ الشمس الذي يُضفي نوراً على مقالاتي.. إن كان لمقالاتي أي قمر.
من ألطف دعاباتهِ الذكية أن أحدَ المعلقين علـّق على موضوع ازدحامات الجسر الذي خرج هنا بحلقتين بالإنجليزية، فيرد عليه (اليوم) بالإنجليزية، ويختمها بهذه العبارة: «بسبب الحاجز اللغوي يا صديقي فقد فقدتَ نصفَ القراءِ.. وبردّي عليك بالإنجليزية.. فقدنا النصفَ الآخر!)
وكانت إشارة ناقدة ذكية فوق التوقع..
إلى صديقي المعلق الغامض (اليوم) تقبل تحياتي.. مع كل غيرتي!