السفير

سنة النشر : 09/08/2008 الصحيفة : اليوم

 
.. واجهنا مشكلةً كبرى مع مرضانا المصابين بالفشل الكلوي النهائي في الفلبين.
 
كانت الفلبين موئلا مناسبا لإرسال مرضنا ضمن برنامج تطوعي تأسس في العام 1997م، وحتى أواخر العام 2006 كانت الأمورُ تمشي بيسرٍ وسلام، ويعود مرضانا وعلى وجوههم إكاليلُ الصحةِ والعافية.. على أن أمورا تطورت، وجهات تدخلت قلبت هذا العملَ الإنساني لأطماعٍ شخصيةٍ رخيصةٍ، بل أقول وحشية، لأنها كانت استغلالا لحالاتٍ مرضيةٍ خطيرة لمرضى لا حيلة لهم ولا بديل سوى الزراعة.
 
وكنا اخترنا الفلبين دون سواها من الدول لأن القانونَ لم يكن يمنع تبرع الأحياءِ بكلاهم للمرضى المحليين والأجانب، مما جعل الأمرَ متاحا للأطباء المسجلين دوليا الكبار، والمستشفيات الراقية، لإجراء العمليات، في حين أنها ممنوعة في بقية الدول التي يذهب إليها بعضُ مرضانا مما يشكل خطورة قصوى حيث لا مساءلة ولا رقابة ولا تطبيق للإجراءات المطلوبة طبياً دولياً.
 
وكان من ضمن ضحايا قانون صدر في الفلبين بعد استفشاء ظاهرة التسوق للكلى منع الزراعة للأجانب بنتنا عائشة الشهري، وقد حدثتكم عنها من قبل، فهي فتاة تبدو في التاسعة أو العاشرة، وهي تدخل حقيقة ربيعها الرابع عشر، من جراء مضاعفاتِ الأمراض، وقضت شهورا مزروعة بالأنابيب والأبر ووزنها لا يصل الخمسة وعشرين كيلو من لحمٍ رقيق يكسو عظاماً أرقّ وأوهن.. ولما رأيتُ عائشة أصابتني حالةٌ من الهوَسِ والغضب على من تسبب بالمنع، ولم أستطع أن أنسى أبدا منظرها وأنا أزروها، حين وجدتها رغم آلامها التي لا يعلمها إلا الله، ثم أبوها الذي يقضي كل الوقت معها يدعو ويصلي ويراجع، باسمة ذكية لمـّاحة ومرحة..
 
كان هذا من شهرين لما رأيتها أول مرة.
 
لما عدتُ هذه المرة كان الوضع ما زال على حالِه.. ونهض الجنونُ والهوسُ والحزنُ من جديد عنيفاً أعمى، لا أستطيع أن أرى عائشة تموت أمامي بسبب سخافات ناس، وتعنت نظام.. خصوصا وأنها حالة خاصة سمح لها النظام لولا نظام آخر أكثر ظلما يحدد المرضى المسموح لهم من الأجانب بنسبة العشرة بالمئة بالنسبة للفلبينيين.
 
وصحيح أن الزيارة كانت «نوعا ما» محددة لأن رئيسة البلاد تريد تشجيع الاستثمار الزراعي للأجانب.. إلا أننا فتحنا جبهة اشتركت بها السفارةُ السعودية والقطريةُ والمكتبُ الصحي التابع لوزارة الصحة بالفلبين، كما جنـّدنا معارفنا هناك من كبار الفاعلين في القطاع الصحي ورؤساء اللجان الخاصة ببرامج الزراعة، والأخلاق الطبية لمساندتنا أولا من أجل عائشة ثم من أجل بقية مرضانا الآن وفي المستقبل.. إلا أن عائشة هي التي كنتُ استعطفُ الجميعَ من أجلـِها.. ووجدتُ أن الجميع ليسوا بحاجةٍ لاستعطافي فهم حقا يعطفون عليها..
 
في اجتماع بالسفارة السعودية وحضره السيد عبدالله المطوع سفير قطر الذي سعدتُ بصداقته مع مسئولي الصحة الفلبينية، جعلني الإخوة مشكورين اشرح خطةً للتعامل مع الموضوع، بدءا بعائشة.. وكنت أعيد اسمَ عائشة كمن به مسٌ أو لطفٌ بالعقل.. كلّ لحظةٍ تمرّ محسوبة على قلبِها الصغير المتعب..
 
خرجتُ من الفلبين وهي موضوعة على أول قائمةِ العمليات القادمة..
 
هاتفت أطمئن عليها يوم سفري، وكانت متعبة، وقال أبوها: «لقد كدتُ أفقدها اليوم لولا لطف الله.» وأخبرته بأن يصابر قليلا فالفرج إن شاء الله قريب..
 
قبل أن يضع السماعة طلب مني التمهل لأن عائشة تريد أن تقول لي شيئا..
 
وجرى عبر السماعة صوتـُها الصغيرُ الدقيقُ الضاحك: «ستعود «للديرة» اليوم؟»
 
قلت: «نعم.»
 
قالت: «اطمئن. سأشفى إن شاء الله، وسآتي للديرة، وسأكتب لأنافسك!»
 
فوقف الكلام..