لولا الدموع
سنة النشر : 05/08/2008
الصحيفة : اليوم
لولا الدموعُ لكان المصيرُ الجنون.. هذا ما صرت أومنُ به.. ولكن لأحكي لكم التجربة باختصار.
أسافر للشرق لأمورٍ كثيرةٍ وكلها بالنسبة لي أمورٌ مهمة، وهذه المرة كانت رحلةً سريعةً بدعوةٍ من رئيسة الفلبين لحضور خطابها الموجه للأمة، ولمناقشة استكمال موضوع التطوير الاستثماري الزراعي في منطقة جنوب المنديناو، وتطور الموضوع للنظر في تطوير الفرد المسلم هناك..
إنما موضوع أولادنا وبناتنا المتروكين هناك كان شغلي الشاغل حتى أنهم أخذوا جلَّ تركيزي ومعظم وقت الزيارة السريعة.. وكنتُ أخبرتكم مأساة البنت سلمى، ثم في مقال آخر أبلغتكم أن قصتها وصلت لنهاية سعيدة (نسبياً) فهي تعيش بحالةٍ أفضل، وتتعلم، وتأخذ دروسا دينية، وتزيّت بالزيّ الإسلامي، ومعها أخريات بفضل الله ثم بفضل مساهمةٍ ماديةٍ ومعنويةٍ من الأميرة الإنسانة سارة بنت مساعد بن عبدالعزيز..
ولكن، لما وصلت كان هناك الكثير من الدفعات الجديدة، وقال لي السفير محمد أمين ولي ونحن بطريقنا إلى مقرّ مجلس النواب الفلبيني: «هناك موضوعٌ أهم ينتظرك.» وراح يخبرني عن الوافدين الجدد من أبنائِنا وبناتنا للسفارة الذين هم من زيجاتِ سعوديين من فلبينيات، وعاشوا معهم لفترةٍ ثم في يوم تبخرَ الأبُ ولم يعد، ليبقى الأولادُ والبناتُ في ظروفٍ لا تعرف ان ترحم الأطفال، وفي مجتمع يأخذهم بعاداته ودينه، وليت أن هذا هو الأمرُ الوحيد، فقد اكتشفتُ وأنا معهم واحدا من أبشع ما يضرب الإنسانَ في كيانه ووجوده من الآلام، حين يشعر الإبنُ والإبنة أنهم ليسوا بذي قيمةٍ عند آبائِهم، بأنهم مجرد غبار، كما قالت لي «حنان» في رسالة تقطع أوتار القلب، وتقول «أميرة» وهي واحدة تركها أبوها وهي في التاسعة، ثم ماتت جدتها وأمها وهما كل العائلة اللتان كانتا بقيتا لها بعد حادثٍ عنيف لما اقتحمت شاحنة كوخهم الصغير لتدهس الاثنتين حتى الموت..
وتترك الطفلة في إعصار الخوفِ والحزن وقلةِ الحيلة.. ثم إنها بمعجزةٍ معجونةٍ بالآلام وأشد التجارب قسوة صارت واحدة من نساء الأعمال والصناعة في مدينة سيبو المزدهرة: «لقد حققتُ كل ما أردت أن أحققه في حياتي، وينظر الناس إلي بإعجابٍ وغيرةٍ، ولكني أقول لك أنا لا شيء، أنا مجرد حشرة أو أقل.. لأن أبي لا يعترف بي ولا يقرُّ حتى بوجودي. ولو سمعتُ صوته، فقط، لاكتملت..» وسمعتُ كلاما أكثر، ورأيتُ دموعاً أغزر..
خصص لي السفيرُ صالة أجتمع فيها مع هؤلاءِ الأبناء بجانب مكتبه، وأقضي بها الساعات أسمع قصصهم، محاولا عبثاً التخفيف من آلامهم، ثم لا أجد مفراً من أشارك في دعوة البكاء.. وقال لي السفيرُ وأعضاء السفارة إنهم كثيرا ما يقفلون ابواب مكاتبهم ويبكون.
والصالةُ أخذت عنواناً من واقعها من يوم وصلت، فسميناها «صالة الدموع.» لقد أخذ هؤلاء الأبناءُ والبناتُ كل قلبي، وبدأت بالمشروع باعتباره مشروعا مؤقتاً، مثل تلك المشاريع الاجتماعية التي نبدؤها أو نقترحها ثم نمضي لغيرها بعد أن يكون تسلمها منا من أهم أقوى هِمـَّة لإكمالِها واقعاً، ولكن مع الوقتِ وارتباطي بهم وارتباطهم بي، وحثّ المجتمع السعودي الصغير في مانيلا لي بألا أتركهم، جعلني أكرس نفسي بكل ما أملك من جهدٍ وقدراتٍ (وما أصغرها) من أجلِهم..
ولما اجتمعنا ذات مساءٍ باجتماع ضمهم كانت تجربة من أروع وأسمى تجارب السعادة الصافية المنطلقة، وألقيتُ عليهم شعراً للشاعر الإنجليزي توماس إليوت يصف فيه السعادة الروحية وكأنها إرسال عربةٍ لتستضيء بأنوار النجوم.. ثم إن شيئا حصل، وهو أنهم صاروا يتبادلون آلامَهم، التي لا يشعر بمدى عمق جراحها إلا هم، وبادروا يضمون بعضَهم، الكبيرُ يواسي الصغير، والصغيرُ يستقر بحضنِ الكبير.. صاروا عائلة!
ثم اقترحَتْ البنت العبقرية حاملة الماجستير «أمينة آل بن حسين» أن يشكلوا رابطة بينهم ولهم، وسمينها «رابطة العودة للجذور..» وتلك قصةٌ أخرى..