روتين
سنة النشر : 10/12/2005
الصحيفة : اليوم
"أريدك يا أستاذ أن تحدد العصا الكبرى التي تمنع عجلة التقدم في بلداننا من الدوران؟" - سعد الوردي.
سؤال يستحق مقالاً..
لن أسرف في التنظير ولا التقعر، أقول لك إن العصا الكبرى، كما أحببتُ وصفك، هي الروتين، أقولها بلا رفَة رمش. لأن الروتين صار عقلية يا سعد، ولم يعد النظرية التطبيقية لإدارة التخليقات الإدارية الكبرى، لقد صار عقلية، وموقفا، وبيئة، وأخلاقا (هه، أخلاقا؟!) طيب، أقصد نمطا سلوكيا جامدا، متيبس المفاصل، عصي الحركة، ثقيل الجثة، متعالي النبرة.. يعتقد أن الدنيا عليها أن تدفعه، بينما الوظيفة الأساسية له أن يساهم في دفعها..
الروتين يا سعد، لأنه صار عقلية غليظة، فيها الكثير من الدهن الجامد، والطين اللزج الذي يغطي رؤية البصر، ومعها بصيرة العقل والضمير.
الروتين يا سعد، لأنه قلب المنطق، وأظهر قاعه على سطحه فجعل الخادم سيدا، ومتريسا يشير بإصبعه إلى الناس فإذا هي تسير في خدمته، وتلبية أهوائه.. وكل خدماته وأهوائه إنما حزم من المسامير الصدئة التي تضرب العجلة فتعيقها، أو تلج القدم السائرة فتلهبها وتقعدها.
إنه الروتين يا سعد، حيث لا معنى للوقت ولا لعقارب الساعة المعلقة، فلا يُربط إنجازٌ بوقت محدد (متى من الله علينا بشيء من الإنجاز) ولا يقيد موظف بموعد مسبق، ساعة تعلق لا معنى لها إلا عندما تقترب الدقائق معلنة انتهاء الدوام، وإذا البعض الروتيني مرق عن المكان منذ ساعات!
إنه الروتين يا سعد، الذي يتعبد ويتنسك في النظام، فيصير النظام قيدا، ولا يبقى من معناه كنظام إلا سوء الانتظام. يصير قفصا ضيقا، وقالبا مسبوكا، لا تتحرك فيه الإجراءات إلا بزحفٍ ثقيل، فتضيع مصالح الناس، ولا يدور الحوار، ولا يتقد التفكير، ولا يمرق الاجتهاد.. فيصير الجميع محبوسين، حتى صاحب الروتين فهو في قصر مشيد من الإضبارات المغبرة المليئة بنصوص دارسة يحفظها ولا يفقهها وكأنها دساتير وقدس الأقداس..فلا يجرؤ أحد تلمس هواء نقي خارجها، لا المتمترس بها ولا الذي يريد أن يخرج من متاريسها. متاهة بأبواب لا تفتح إلا إلى جهة واحدة، جهة التيه.
إنه الروتين يا سعد، عندما يتحول الموظفون إلى آلات ميكانيكية تقوم وتقعد وتكتب وتترحل، وهي لا تعلم لماذا هذا، ولماذا ذاك، وهل يجوز أن ألا يكون هذا ولا ذاك.
وتعرف يا سعد أن الآلات الميكانيكية لا تتطور ولا تنمو ولكن تزيد صدأ وتيبسا مع الزمن، حتى تثقل على الزمن ذاته. وهي بلا قلب ولا إحساس فلا ترى بعين العطف ولا نظرة المسئولية إلى الناس. إنها ببساطة لا تشعر بالناس.
ووصل الروتين يا سعد إلى التعليم، إلى المدير في المدرسة لا يرى طلابه ولا معلميه، والمديرة لا ترى إلا مكتبا أنيقا وتسلطا سليطا.. وننسى في هذا الغمار أعظم مسئولية ملقاة على عواتقنا وسنسأل عنها سؤالا مريرا، وهو مصير الأجيال.
وفي المستشفى، وفي المصالح، وفي المحاكم، وفي الوزارات، وعند مقرري القرارات، يشارك الروتين ريوق الصباح وتعسيلة الأماسي.
هل أنا خائف يا سعد من الروتين؟ أنا أعرف سماجة حضوره.. ولكني أعلم أن السائق لابد أنه مترجل من عربته يوما ليزيل العصا الغليظة ويلوح بها بعيدا في هوة بعيدة..
عندها ستكون رحلتنا إلى الأمام، جميعا، بلا عوائق ولا منغصات.