سنة النشر : 16/12/2008 الصحيفة : اليوم
.. من الصعبِ أن تكون الأمورُ الاقتصاديةُ بأي بلدٍ على ما يرام، أو أنه محمي بصدَفـَةٍ وقائية ضد تقلبات العالم الاقتصادية وأنوائِه، فكلنا يرى تداعياتِ الأزمة بعينه المجردة، وهذه طبيعةُ آليةِ أحجار الدومينو، عندما يسقط حجرٌ تتابع بقية الأحجار بالسقوط، والتطمينات التي نسمعها لا تعني إلا مقدار بعدنا عن عين الإعصار، ليس أن الإعصارَ لم يمرّ علينا، أو أنه انحرف عنا في طريقهِ ليتابع هجومه في البلدان الأخرى .. فالشواهدُ بارزةٌ.
وعندما تصرح الرئيسة الفلبينية في قطر، قبل يومين، بأن بلدها هو الأقل تأثرا من آثار الإعصار، فهي تملك دليلا حاضرا، والسبب : «العنصر البشري».
العنصرُ البشري هو الثروة الخالدة لأي أمةٍ، البعضُ ينميها ويدربها بشكل منتج فتتقدم الأمة، والبعض يهدرها، فيهدر أهم مقومات الازدهار، والصمود أمام عواتي التقلبات الاقتصادية. تعلن الرئيسة الفلبينية أن قطر بمفردها بحاجةٍ للعام المقبل 2009م، إلى أكثر من 37 ألف عامل فلبيني .. فقط في قطر.
وقطر ليست الموظف الأول للعاملين الفلبينيين، بل الرابع على مستوى العالم، وعدد الفلبينيين العاملين في قطر لليوم تعدو المائة والتسعين ألف عامل. تعتمد الفلبينُ اعتمادا رئيساً على تحويلات أبنائِها وبناتها العاملين في الخارج، الموزعين على القارات والمحيطات، (قصدتُ حرفياً المحيطات، لأن البحـّارَ الفلبيني هو المطلوب الأول على متن السفن العابرة للمحيطات.) وترى أن التحويلات التي تأتي من العاملين الفلبينيين، هو الذهب الآدمي ـ إن صحّ الوصف ـ الذي يغذي خزائن الفلبين ويجعلها تنطلق في برامج التنمية والتطوير.
وبما أن العنصرَ البشري لا يصيبه، كقيمةٍ وكعنصرِ إنتاجٍ، ما يصيب عناصر الإنتاج الأخرى، فإن أية عقبةٍ اقتصاديةٍ لا تؤثر في الأصل البشري، ما دام مدرَّباً ومنتِجاً، وقابلاً لتقبل البيئاتِ العملية بأي ظرفٍ وبأي مكان. أميلُ جدا إلى تصديق ما صرّحتْ به الرئيسة الفلبينية. فرغم الفزع الاقتصادي العالمي، مازال الطلبُ على المهندسين والفنيين والطواقم الطبية والعمال الحرفيين الفلبينيين يتزايد عاماً وراء عام.
ولولا أن الفلبينَ تملك العنصرَ الإنساني المؤهّل والمتأقلم لكانت الآن في الحضيض بين دول الحزام الهادي، لأنهم يسبقونها في عناصر الإنتاج الأخرى. والرئيسةُ الفلبينية ـ وأنا أنقل لك عن جريدةٍ سيـّارةٍ عندهم، تركها لي معتزاً الممرِّضُ الفلبيني، في أحد مستشفياتنا الكبرى، ويستعين به الكادر التمريضي عندما تستعصي عليهم أمورٌ فنية أو عملية ـ تقول : « في الماضي كنا نصرف الملايينَ لتدريب قـُوَانا العاملة.
أما الآن فنحن نصرف البلايين لتصعيد الرافعة التدريبية لعمالنا، وتأهيلهم للتنافس الدولي في السوق العالمي للتوظيف، وتركيزُنا على زيادة المنح الدراسية للمهندسين والفنيين». دولةٌ فقيرة مثل الفلبين تصرف البلايين لتدريب قواها العاملة، والنتيجة كما تقول الرئيسة : «إن هذا الاستثمار في التدريب كان المساهمُ الأساس في تضاعف تحويلات قوتنا العاملة في الخارج».
وهنا نستطيع أن نقول : إن الرئيسة الفلبينية تحمل تصريحاً بيد، وتحمل باليد الأخرى تأييداً واقعياً. فبينما تترنح الدولُ الأقوى من جاراتها، يستمر الناتج القومي الفلبيني في الصعود، وبواسطة سبب واحد : تنمية الإنسان. هذه التجربة الفلبينية بتنمية المورد البشري، وإعدادِه بحذاقةٍ، تدريبياً، وعمَلياً، ومنهجيّاً، ومرونة، أنقذتهم من أن تبلعهم عين الإعصار الكاسح الحالي. وليست التجارب فقط تلك التي نستشرفها أكاديمياً أو نظرياً، أو من الدول الأولى، بل يجب أن نستشف ونستفيد من تجاربٍ ناجحةٍ في أي دولة في العالم مهما تضاءلَ ذاك البلدُ.
فالتجربة الإنسانية الناحجة ليست حِكراً على أمّةٍ دون أخرى. بل إن ما تستطيع دولةٌ أقل تجهيزا من الدول الكبرى، أحرى بنا أن ندرسَ نمطـَها وتجربتها، وتوئيمها مع طبيعتنا ومتطلباتنا. فالفنُ هو ألا تبحث عن وظائف للناس، بل أن تجعل الوظائفَ تبحث عن الناس. فنٌ يصنعُ كلّ الفرق!