سنة النشر : 18/11/2008 الصحيفة : اليوم
وسط الحرب العالمية الثانية ، كانت لندن تـُضرَب بالرواجم الناريّة من أسراب الجو النازيّة، أروع مدن أوروبا وأعرقها مهددة بالزوال. التفّ القادةُ والوزراءُ حول «ونستون تشرشل» رئيس الوزراء، ودار حديثٌ مفعمٌ بالتشاؤم والتطير والتخوف من القادم..
نفض الرجلُ المليءُ بأصابعه العريضة رمادَ سيجارته الذي لا يفارق فمَه بكل الظروف، وابتسم في وجه الجميع، وضعَ قبعته، وغادر القاعة، وهم يسمعون صوته يجلجل عبر البهو : «اجلسوا وتطيّروا ما شئتم، فأنا تضررتُ ما فيه الكفاية.. الشيءُ الوحيدُ الذي لن يضرني هو التفاؤل..» في مؤتمر الفكر العربي السابع في القاهرة شاركتُ في جلسة وسُجّلتْ لبرنامج «حوار العرب» بقناة العربية، وبحضور راعي فكرة مؤسسة الفكر الأمير خالد الفيصل، وكان موضوعُها عن التفاؤل والتشاؤم، والذي أذهلني، ليس عموم التشاؤم بين الناس، فهو أمر متوقع لوجود ظروفه وأسبابه، إنما لأن بعض كبار المفكرين العرب الذين شاركوا مالوا للتشاؤم، وبعضهم كاد ألا يجعل في الدنيا العربية شيئا قائما غيره.. وأزعجني أن كل ذلك مُرّر أمام مجموعة مختارة من الشباب العربي الحاضرين في القاعة، والملايين منهم الذين سيرونه عبر العربية.
ولم يكن لي مخرج إلا أن أكون ما أومن به: متفائلا.. أخبرتُ الجمعَ عن رأيي، وعن قصصي الحقيقية الواقعية عن قوة التفاؤل لأشخاص أعرفهم، ومنهم حبيبنا المخترع السعودي الصغير «مهند أبو ديّة» الذي فقد ساقـَه ونظرَه في حادث عبثي، وتلقى إجراءات علاجية لامبالية، وكان أدعى أن يكون متشائما، ولن يلومه أحدٌ لو صار.. هاتفني بعد مصيبته، بل مصيبتـَيْه، ليقول لي: «الآن بدأت الإثارة في حياتي.. وسترى كيف سأعمل.
لقد أراد اللهُ لي أن أخترع شيئا للعُمْي.. إنها مكافأة لي من الله.» وقلتُ للجمع: «إن لم يكن هذا هو التفاؤل، فرجاء أعطوني معنى آخر له».. وضـُجّت القاعة بعد برهة صمت بالتصفيق.. لا لم يكن لي، بل للبطل مهند بودية.. اي للتفاؤل في أقصاه! وبعد أن كان التشاؤمُ هو الغالب حسب عمليات تصويت بالقاعة التي قامت بها «العربية»، في أول النقاش، تحول في آخر الجلسة إلى ميل واضح للتفاؤل، حتى إن الشاعرة السودانية المجلية «روضة الحاج»، أكرمتني بالتعقيب على النظرة التفاؤلية، وكنتُ قد أشرتُ لقصيدة «إيليا أبو ماضي» ( تبسّم) ، فتلتها كاملة بالقاعة بصوت ثابت، وإلقاء فصيح خلاّب.. ثم شابٌ سوداني ملأ القاعة صوتـُه المتحمس بالتفاؤل، رغم كل الصعاب التي يراها تحدث في وطنه: اقتصاديا وسياسيا، ومعارك وحروب، إلا أنه قرّر هو والشباب الذين معه أن يتفاءلوا.. وأثبت لي هذا الشابُ السوداني الجميلُ أن التفاؤلَ هو المنصة التي تنطلق منها الشجاعة.
وفي برنامج تلفزيوني سئلتُ بأن التقرير الذي أعدته مؤسسة الفكر العربي، عن صرف الحكومات العربية على التعليم والبحث قليل جدا، وعقـّب المذيعُ الشابُ بأنه يشعر بالتشاؤم.. وكان ردّي الفوري أن تأسيسَ «الفكر العربي» هو من نتائج التفاؤل، وظهور التقرير بصراحة ومكاشفة هو تفاؤل، لأنه في الماضي لم يكن أحدٌ يجرؤ على انتقاص دور حكومي، ومتفائلٌ لأن المعلومات التي بالتقرير كان الحصول عليها في السابق نوعا من المغامرة غير محمودة العواقب..
في هذه الحياة لك القرار في أن تكون متشائما أو أن تكون متفائلا.. وتأكد أنك ستصير ما اخترته.. ستنجح إن كنت متفائلا، فالمتفائلُ سيرى فرصة في كل مشكلة، ولن ينجح المتشائم لأنه سيرى في كل فرصة مشكلة! لو كان التشاؤمُ ينفع ولو بشيء واحدـ فإنني سأرفع علـَمَه!