سنة النشر : 15/11/2008 الصحيفة : اليوم
"كانت عندي الكلمات ولكن بلا روح فضعتُ وعندي الروح ولا كلمات، فتـُهتُ والآن عندي الروحُ والكلماتُ .. فحيَيْتُ" .. من قصيدة بالإنجليزية جميلة الكلمات، أرسلتها لي البنت السعودية أمينة .
وأمينة هي واحدة من بناتنا المتروكات في الشرق بعد أن تخلى عنها والدُها، وسبق أن كتبتُ عنها، واستعرنا لها اسم أمينة حتى لا يُعرَف اسمُها الحقيقي، مع أنه اسم معروف في أوساط السفارة السعودية، ومنظمة الأمم المتحدة التي عملت بها، والسفارة القطرية التي كانت تعمل بها، وتحمل إعجابا كبيرا للسفير القطري هناك لإنسانيته وسعيه الحثيث لربطها مع سفارتها، وسبق أن تجاوب معها القراءُ لما كتبتُ عنها تحت عنوان السعودية المسيحية، ومقال آخر : سعودية تضع الصليب ..
موضوع أمينة تحسن ظرفا ولم يتحسن كلية، تحسن ظرفا لأنها ارتبطت الآن في السفارة، وتتعلم الإسلام واللغة العربية، ولم تتحسن كلية لعدم اعتراف أبيها بها حتى الآن . أمينة نابغة في التنظيم، مجيدة للغة الإنجليزية ككتابها المحترفين (سبق أن نُشر لها مقالٌ بجريدة «سعودي جازيت»، وكان مقالا أخذ بقلوب القراء حسب تجاوبهم وردودهم) .
وضعت أمينة الصليبَ كردّ فعل غاضب، لفهمها أن الإسلامَ لا يشجع على الترابط الأسري، وهي قرأت هذا من مصادر متوفرة في بيئة مسيحية متكثلكة، حيث الإسلام يصوَّر كمصدر للشر .. أمينة صدّقت ذلك، وعبّرت عنه بوضوح بصليب كبير على صدرها مع احتفاظها بكامل اسمها واسم عائلتها السعودية ..
سألتني مرة سؤالا : «قل لي ما معنى الولاء لبلد أو عقيدة إذا كان أقرب الناس إليك، المنتمين لها، لا تعني له شيئا، ويتركك - كما قالـَتْ حرفيا : « مثل زبالة الأمس»؟»، كان النقاشُ معها لا يجدي، فسلكنا طريقاً آخر..
نسـّقنا مع السفير القطري أن يحضرها لمهمة عمل واجتماع في السفارة السعودية في مكتب السفير السعودي، ومعه أركان موظفيه، وكنا قد رسمنا اجتماعنا رسما لجذب انتباه البنت البالغة الثقافة والغضب معا.. نجحنا وقتها بجمع الأولاد والبنات (الذين تأكدنا منهم، وعرفناهم) وبدأنا بتأسيس رابطة بينية سميناها : «رابطة العودة للجذور»، لإعادة تأهيل الأبناء والبنات السعوديين ثقافيا ومعتقديا وتعريفهم على بلادهم .. إلا أمينة، مع أنها الأنشط والأرفع تعليما والأسطع ذكاء .
ونجحت خطتنا، رأتْ السعوديين متحمسين لمساعدتها، ومتكاتفين معها ومع الكثيرين والكثيرات غيرها، وأكبـَرَتْ أن يجتمع كبارُ السفارة من أجلها .. وبدأ التحول .
صارت أمينة تحضر مناسبات السفارة، وفي الحفلات العائلية تجلس مع النساء، وأحبتهن، وعرفت ترابط الأسرة السعودية، ثم تولعت بوضع الطرحة على الرأس مبدئيا، وصارت تنظر في تغيير هيئتها الخارجية .. ثم اقترحت تنظيما تطويريا وعاملا للرابطة .. وهي الآن ترأسها بجدارة .
أرسلت لي قائلة بعد أن عرض عليها القنصل المثقف «فيصل القحطاني» التعاون مع السفارة : لقد التقيت بالسيد القحطاني، وشعوري أقوله لك بوضوح : أنا فخورة بكوني سعودية .. ولكن، لم افهم بعد سرَّ معنى الولاء ؟ رددتُ عليها: ولاؤنا لمعتقدنا ولوطننا مثل صلابة ولمعان الرخام، وشكنا في ذلك لأي سبب، هو كالغبار الذي يتجمع على سطحه، فنعتقد أنه طمس الرخام.. ثم فقط بنفخة واحدة يتطاير غبارُ الشكّ والغضب والاحباط، ويعود الرخامُ صقيلا من جديد .. أجابت : «إذن الولاءُ مرتبطٌ بوجود أفواه تنفخ !».. - صحيح .
شيءٌ آخر يشرح معنى الولاء بجلاء لأمينة، ولم ارَ مناسبا أن اقوله لها فهي لم تعد تضع الصليبَ.. وعلقت برقبتها صندوقا فضيا عليه نـُقشَ الهلالُ، وبداخله.. صورة أبيها !