رسالة الأربعاء

سنة النشر : 29/10/2008 الصحيفة : اليوم


«رسالة الأربعاء» .. الدكتور خالد اليحيى، واحدٌ من علماء الفيزياء. فيه أمورٌ في غايةِ الوضوح، وأمورٌ في غاية عدم الوضوح، هو زجاجة ترى من خلالها، والغريبُ أنك لا ترى داخلها. هو ستارةٌ تنزاحُ بسهولةٍ، ولكن يطلّ من وراء الستارةِ جدارٌ من حصون القرون، صلِدٌ عالٍ، لا تعلم ما يخبيء وراءه، ولماذا يخبئه في الأصل.

باعتقادي أن الدكتور اليحيى عبقريٌ على قدمين، ولكنهما قدمان لا تسيران على الأرض، الأرضُ هي التي تسير تحتهما.. وهو موهوبٌ حقاً، بل منجمٌ من المواهب العلمية والأدبية والتأملية، ولكنها محبوسة داخله، أو، كمتصوفي المسالك، هو محبوسٌ داخلها. أعرف أن في داخله شمسا، وأومن أن الشمسَ لابد أن تخرج وتشع، فهذا دورُ الشمس، ولا دور لها غيره. قرر خالد أن يسمح للشمس بالإطلالة بأن ينشر علمه محاضرات وكتابةً بعد أن تمنينا عليه كثيرا، ولكنه يجازفُ مجازفة، ولا يسير كزحف الكتيبةِ للأمام.. فتبقى الشمسُ معلقة بين الشروق والانحباس.

أرجو أن يكون خالد دائما مفتوحا أمام المجتمع، ولكنه يعتقد أحيانا أن بابـَه بلا مفتاح. خالد يستعصي عليه- بإرادته- أن يخرج من الهامش للمتن- وهذا يحزنني، ليس من أجله ولكن من أجل ما يملك داخله لنا. وسترى أن رسالتـَه لي من قطع الأدبِ الرائق، وبها مسحة عميقة من انسحابٍ لا تعرف مصدرَهُ.. ولا سبَبَه، مع أنه يملك مقوماتِ الاستعراض.. ابقوا معه: « مرحبا نجيب .. أنا يا سيدي رجلٌ تافهٌ لدرجة أني بصدد تأليف كتابٍ اسمه (قصة التفاهة) على غرار (قصة الحضارة) لويل ديورانت، وعلى فكرة أنا لم أرَ قط كتاب ديورانت أو ألمسه، لكي لا تتهمني «بالغرور المعرفي»، فقط حفظت اسمه من أجل أن أكون لائقا.

أنا رجلٌ عاديٌ تماماً - لدرجةِ الملل ربما - عربي مسلمٌ من جملة هؤلاء المليار و ثلاثمائة مليون مسلم الذين يدبّون على الأرض بهدوء و بساطة. بسيطٌ للغاية لا أريد إلا شيئاً واحداً في دنياي هذه : أن أعرف! هذه هي مشكلتي. لا تهمّني مسمياتكم على الإطلاق .. لا يهمّني الليبراليون أو العلمانيون أو اليساريون أو اليمينيون أو الطالعون أو النازلون.

هؤلاء بالنسبة لي غرباء رغم احترامي لهم جميعاً. كلّ ما في الأمر أني وضعتُ لنفسي قواعدَ معيّنة ألتزم بها شخصياً أثناء القراءة، لم أدّعِ أنها صحيحةٌ تماماً، و لم أقل أنّها تلائم الجميع، و لم أصرّح أنها ملزمة لكل خلق الله. مشكلتي أنني اعتقدتُ أن الليلَ محبرة، وأن الشمسَ محبرة، وأن الريشة تكتب في صفحةِ السماء دبيبَ النملةِ على الأرض، لأنه بالكلمات يحيا الإنسان. أكتب .. ولا أدري إلى أي مدى سينزف اليراع، يتساقط رماداً على بياض الصمت.وبرغم ذلك نسير. وسنسير في عالمٍ بلا خرائط، المهم أن نسير.

لا يهم الوصول متى وأين؟ وكيف؟ أصبحت الكلماتُ تخرج فقط للضرورة، فالعالمُ ليس أنيقا، مادامت الخوَذ الصماء التي تـُلبس في الرؤوس أكثر من الأحذيةِ في الأقدام.. أعتذر، وكان في نيتي أن أكون أكثر دقة في بناء حكاية أفكارٍ عتيقةٍ، ولم أفلح حتى الآن. ليس بسبب ذاكرتي.. وإنما لأنها هكذا هي قصص الأفكار، بلا إطار، بلا خاتمة، بلا تفاصيل، وبلا نهايات.

الذي أعرفه هو أنني أتيه فخراً بصرح اسمك الكبير، وأرمّم أطرافـَه بالتراب والرمل. لن أسألك شيئا، ولن أخدش أذنك باسمي. سأحمل لك دُمَىً ملوّنة .. وقلبا مفعماً بالوفاء، إن لم تتكلم ياسيدي، فسأتحمل في الحقّ صمتك، وسأملأ به قلبي.

سأنتظر ساكنا في الليلة المتلاحمة النجوم، ورأسي حان مطرق، سيقبل الفجرُ بلا ريب، وستنقشع الظلمة، وسيسيل صوتـُك في رعشاتٍ مذهبـّة تنسرب عبر السماء ..حينذاك ستتسق كلماتـُك في أغنياتٍ حول أي عشٍّ من أعشاشي المتناثرة في مرابع الزهور، وسألوّح لك بيدي المتعبة شاكرا .والسلام على الرحبِ فيك والهادئ والجميل.. من: خالد– هامشٌ يرفضُ الصعود للمتن»