سنة النشر : 28/10/2008 الصحيفة : اليوم
.. وهذه المرة في مقدراتنِا وأموالِنا، وببقيّةٍ صغيرةٍ باقيةٍ بثقتِنا بمتانةِ النظام الرأسمالي الأمريكي الوولستريتي .. برمّتِه!
المتعاملون الماليون في العالم يعرفون جيّداً الثورَ البرونزي الذي نحته مثـّّالٌ شهير، ووضعه بتوثبِهِ الهجومي في جادّة شارع «الوول ستريت» قبل حوالى عقدين من الزمان، لأن الثورَ في الأسطورةِ الأغريقية هو عنوانُ القوةِ والفحولةِ والتكاثر والازدهار، كرمزٍ للفورةِ الاقتصاديةِ التي هبّت على أمريكا ذاك الحين.. و»ماري لينش» أكبر مصرف صانع للمحافظ المالية في الكوكب طالما صوّر الثور في شعاراتِه.. حتى صار الثورُ مثل البقرةِ المقدسةِ الهندية.. وربما أشدّ عنفوانا.
اليوم فلـَتَ الثورُ من رَسْنِه وفجّر بقرنـَيْه الحادّين الملتويَيْن الواجهة الزجاجية الهشـّة للرأسماليةِ الأمريكية الجديدة فتهاوت متناثرة شظايا البيت الزجاجي الاقتصادي العالمي.
بل انّ مُنـَظـِّرينَ أمريكان طالما حذروا من الطرق المبتدعةِ الجديدةِ بمصارفِ ودور المال، وسموها على طريقة المدارس الأدبية أسواقَ ما بعد الحداثةِ، أو سوق ما بعد الرأسمالية، وأراها أنا من نتائج الحتميةِ الرأسمالية الأمريكية الباردة، والتي انتهجت بمبدأ الإبتكار الاستثماري خطوطاً ونظرياتٍ جديدةً مؤخراً ( في العقديْن الماضيين) بالعزوفِ عن التنميةِ التقليدية في القطاعاتِ الاقتصادية المنتجة كالمصانع والشركاتِ والخدمات، إلى تعـَبـْقـُرٍ جديدٍ في نحتِ المالِ من المال.. ومن هنا بدأت الدائرةُ الخبيثة، ومع الزمن نما ورمٌ سيىءٌ جداً في قلبِ الاقتصاد، مثل تلك الأمراض الشنيعة التي تنتج عندما يهاجمُ الجسدُ البشريُّ نفسَه.. هذا ما حصل!
شـُقَّ المالُ من المال. كأن يُنـْحـَتَ الصخرُ بكتلٍ كبرى من قاعدة جبلٍ صخري حتى تهتز وتضيق قاعدته فينهار كلـُّه.. والذي صار مؤخراُ انهيارُ الجبل الرأسمالي.
ولم ينهر الجبلُ على رأس أمريكا، بل على كل رأسٍ بالعالم.. حرفيا. ومن يقل ان رؤوسَنا لم يطلها شيءٌ، فأنا أقدّم احترامي وأسفي بأنٍي لن أستطيع تصديقه.. حتى لو أردتُ!
صفق كثيرون على انتعاش طرأ على الدولار الأمركي، وهذا أيضا بصالحنا (مؤقتا)، ولكنه ليس أبدا دليلا على عافية الاقتصاد الامريكي المطروح بفراش العناية القصوى الآن، بل ان أطباءَ الاقتصاد الاستشاريين سيحذرون من هذا التشخيص الخاطئ.. فتحسن الدولار إنما للأسفِ دليلٌ على انتشار الموجةِ الارتعاشية لباقي العملات في العالم، فأوروبا تزعزعتْ أركانُ ثوابتـِها المالية، ولأول مرّةٍ من زمن يفقد «اليورو» قطعة من قيمتِهِ أمام الدولار(4% تقريبا)، وصحَتْ اليوم كل البورصات الآسيوية على انخفاضات متتابعة، وقرظ ذلك من كل عملات الدول الآسيوية.. إذن هي ليست علامة عافية للدولار ( والذي يسبحُ عائما بعد فكِّه من قاعدة الغطاء الذهبي، وصار يطبع كورق الكتابة مدعوما بهيبةِ وجبروت الاقتصاد الأمريكي المارد) وإنما مؤشرٌ أن العدوى انتقلت منه لبقية زملائِه في الدنيا.
طبعا سيتغير العالمُ من الآن.. صدقني، ربما شارفنا، وربما كنا الشهود، على سقوط الرأسمالية كما عرفناها. فالأوربيون اليوم يشدون شعرَ رؤوسِهم مؤشـِّرين بأصابع اللوم على أمريكا وبريطانيا، فسمعنا لأول مرةٍ من قلب أوروبا النابض ( فرنسا، والكوكبة الأوربية اللاتينية) كبارَ المسئولين الماليّين والاقتصاديّين يسمون النظامَ المالي القائمَ «بالرأسماليةِ الأنجلوسكسونية»، بل ويتهمونه بأنه خانَ الاقتصادات الأوربية.. يعني خان النظامُ الرأسماليُ الحاليُ كلَّ العالم.
هل ستبقى مقدراتـُنا المالية في مصارف أمريكا كماهي؟ أظنه سؤال مضحك، سأعفي نفسي من الإجابة عنه.. كيف سيعوضوننا؟ لا أدري.. ربما بإرغامنا – تعويضا- بشراء حصص من مصارفَ كبرى متداعية، وربما لا تعويض على الإطلاق. بل، ربما حتى، مطالبات أخرىـ بدعوى أن إنقاذ اقتصاد أمريكا يعني إنقاذ اقتصادنا. وستجد من يصدق ويدعو لذلك بقلبٍ مرح!
هل تخرج العملة الخليجية الآن؟ رغم أحلامي القديمة بتوحّد العملة الخليجية وربطها بسلةٍ عالمية تكون هي من قياساتها الأساسية ( مدعومة بغطاءٍ وثقةٍ عالميين متينيْن) أطالبُ الآن بالتمهل، ودراسة هيكلة جديدة جدا، بآلياتٍ جديدةٍ لما بعد الرأسمالية الحالية.. هذا ما بدأ يفعله الأوربيون أنفسُهم في نظامِهم الاتحادي القائم.
وتذكروا: عندما يكون الغرَقُ جماعيا.. فالكل يحاول الصعود على كتفِ غريق أضعف.. هذه حقيقة إنسانية أزلية.
ولن يرفعنا أحدٌ لتنسم الهواءَ.. إلا نحن!