سنة النشر : 18/02/2015 الصحيفة : اليوم
.. عائشة الشبيلي أنجزت ما ينجزه كبار فلاسفة وعلماء الحضارة والأنثروبولوجيا في التغيير المفصلي للمجتمعات. وربما بمصادّات وعوائق أكبر. على أن عائشة ليست فيلسوفة ولا هي من علماء الحضارة. ولكن الذي أنجزته لمجتمعنا يوازي تلك القفزات الاجتماعية – الأنثروبولجية. هي امرأة عادية، ولكن تحمل همّاً وطموحاً كبيرين لنفع أخواتها السعوديات لإيجاد فرص العمل الذي يوافق بيئة مجتمعنا. ولم تكتف بذلك، بل قفزت بعيدا جداً.. جداً. سأقول لكم.
في مجلس إدارة جائزة الملك خالد لشركاء التنمية- وأتشرف بكوني أحد أعضائه- تقدم لنا هذا العام أكثر من مائة وثمانين شخصا أو فرقة بأفكار إبداعية، والإبداع العملي والمنتج والقابل للتطبيق والنفعي هو ما تهدف له هذه الجائزة. بعد فحوصات وزيارات طويلة، واجتماعات تلت اجتماعات طيلة العام، وعرض على كافة الناس في الانترنت ليشاركوا أيضا في التقييم، رسينا على ثلاثة مشاريع لتكون الفائزة بالجائزة. من هذه المشاريع كان مشروع "مركز إبداع المرأة" والذي آمنت به وعملت من أجله عائشة، ولو عرف أحد مشروعها قبل أن يتم وهو ما زال في عقلها وضميرها وقلبها أظن حتى لن يأبه بالرد أو النقاش لصعوبة مسعاها.
ودوما يعلمنا المبدعون بكل مجال أن أول حاثّات الإنجاز الإبداعي هو قوة الإيمان بالهدف، وحماسة لا تغور ولا تهدأ للمضي في العمل لتحقيقه مهما كانت الصعاب، ومهما انتقد وعارض الآخرون. ولو كان الإبداع من كل الناس لما صار إبداعا، هم فئة قليلة تخرج من المسار المنتظم الروتيني المقبول للعموم، إلى تيهٍ آخر.
لماذا أقول «تيهٍ آخر»؟ لأن المبتكرَ والمستكشف والمخترع والمبدع يطأ أرضاً غريبة لم يسبقه لها أحد، بلا ترتيب ولا تنسيق ولا نظام ولا لوحات استدلال. فهي متاهة دخل إليها بإرادته ولكنه يثق بكل كيانه الحي أنه سيعدّ نظاماً جديداً، وترتيباً مستحدثا، ومساحة أوسع. وفي النهاية، بعد أن يظهر الإنجاز، يدخل في ذلك المسار العام المنتظم.
ما عملت من أجله عائشة أن تعلِّم الفتياتِ عملاً، يأنفه حتى بعض الشباب، وهو العمل اليدوي المهني، وبدأت بالنجارة وصنع الأثاث فضلا عن الخياطة التي تتعلق بالأثاث مثل الستائر. وكان الإقبال من البنات مفرحاً. تقاطرت الكثيرات من العاطلات للعمل اليدوي بلا تردد، في أرض اشترتها عائشة بعد لأْيٍ لتعمل بها الفتيات.
وشيء آخر مهم؟ هل تَعَارضَ مركزُ عائشة مع قيَمنا؟ أبداً! فالعاملات المهنيات بمكان خاص، وعرضت لنا صورة فتاة بعباءتها من الرأس للقدم، وهي تحمل جهاز ثقب (دريل) وتعمل به باقتدار واحتراف. هذا تغيير مفصلي مجتمعي من قسمين: الأول، أنها أثبتت أن الفتيات يقبلن الأعمال المهنية عكس الصورة المفهومة، وهي حتى سبقت مجتمعات أخرى بذلك، وأن البطالة شيء وهمي، لأننا يمكن أن نخلق الأعمال حتى من الهواء. الثاني، لفتياتنا شأنٌ خاص يتطلبه الدينُ والمجتمع، وتثبت أن هذا ليس عائقا، وكسرت هذه الخرافة.
أما ابنتنا المبدعة "وعد سعود المدعج" من أعضاء مجلس الجائزة – لضم دفق الدماء الشابة للمجلس- فقد أسعدتني وجعلتني أشعر بالزهو، وهي تقول لعائشة باقتدار وحماس وثقة: "يا عائشة نحن، كل بنات المنطقة الشرقية، يشرفنا أن نقيم مراكز للعمل المهني كما فعلت.. وإني أعدك أني قادرة بإذن الله على ذلك". فتحولت القاعة لدويٍّ من التصفيق. عائشة ووعد جناحان رائعان حلّقا بكل الموجودين في سماء الفخر.