سنة النشر : 23/12/2010 الصحيفة : اليوم
انشغل عارفو الكيمياء من قرون بعيدة بشغل شاغل وهو كيف يحولون المعادن البخسة إلى معادن نفيسة، وعلى رأسها الذهب، هذا المعدن الذي دوخ العالم منذ عرف حتى الآن. هذا الأملُ البعيد للوصول إلى إنتاج الذهب بخلط ومزج العناصر كان استغراقا لعلماءٍ وسحرة وسلاطين ومشعوذين، بل إن معارك قامت بين أقوام لأنهم اعتقدوا أن من بين قوم آخر من يملك “حجر الفلاسفة”.
وحجرُ الفلاسفة نعرفه من أيام “هيرودوت” وهو في مدوّنات “أرسطوطاليس” و”إقليدس” و”الإسكندر الأكبر” و”بيدبا” الهندي و”سن زو” الصيني، و”الرازي” المسلم، و”ابن حيان”، وتطرق له “ابن طفيل” الأندلسي، وتلميذه “ابن رشد”، ولم يغفل عنه أول رحالة مستكشف في العالم “ابن بطوطة”، وقال : إنه رآه في جزر في بحر الصين “ لذا يقال عن ابن بطوطة : إن له لفتاته ومبالغاته”. وحجرُ الفلاسفة هو الذي أعتقد به الخيمائيون - وهو اللقب الذي أعطي لمشعوذي الكيمياء - أنه الواسطة التي تؤجج التحوّل العنصري لتنقل المعدنَ الوضيعَ إلى المراتب البالغة الصفاء، كالذهب والألماس.
والمأساة، أن هؤلاء المساكين وهم في محاولاتهم المتكررة للوصول إلى الذهب توصلوا إلى تركيب الأحماض القوية مثل حمض النتريك وحمض الكبريت، ولم يعلموا أنهم توصلوا لما هو أغلى من الذهب، حيث التقطه المتأخرون من علماء أوروبا لتكون هذه الأحماضُ هي الأهم في الصناعات. والأحماضُ جنتْ من الأموال أضعاف ما جناه الذهبُ من اكتشافه.. ومازالت، فخسروا ثروةً أكبر أعمتهم عنها ثروةٌ أقل!
في كلمة دعيتُ لها أمام جمع كبير من المهندسين الكيميائيين، كان العنوان هو “حجرُ الفلاسفة والمهندسون الكيميائيون”.. وبرأيي أن الكيميائيين علماءً ومهندسين وفنيين وفلاسفة هم من غيّرَ هذا الكوكبَ، ونقل حياة الناس من مرحلة إلى مراحل في مدارج التقدم، ثم دفعنا ضريبة غالية مقابل ذلك وهي تلويث الأرضَ والهواءَ ورئاتِ المخلوقات. فنهرٌ في بريطانيا صغير قيس فيه مستوى أحماض تفوق الماء نفسه في أول العقد الثاني من القرن العشرين ، لأنه على منابعه مصانع للجلسرين، ثم عرفنا المطرَ ينزل حمضيا من السماء، ثم ثقب غلافُ الأرض الحامي، ثم تلوثت المدن، ثم البحار.. كل هذا لأن علمَ الكيمياء ـ وهو يرفعنا إلى التقدم ـ كان يأخذ منا شيئا غاليا من وجودنا ومن سكنانا الوحيد في هذا الكون.
معظمُ الحاضرين هم مهندسون من أكبر شركاتنا مثل أرامكو وسابك، وهما شركتان درتـّا البلايين من الدولارات لخزانة البلاد، وغيرا طريقة حياتنا ربما إلى الأبد، لكن المداخن، والبقايا، والتسربات والترسبات دخلت جوفَ الأرض، وخالطت كل ذرة هواء.
وهنا كان الإسقاط في حجر الفلاسفة، فالعالم هو الذي يلاحظ ويجرب ويرى النتيجة في المعمل واللحظة، والفيلسوف هو الذي يتخيل ما وراء المنظور لجذوره وأسبابه وعلله، لذا يكون الفيلسوف عالما، وليس كل عالم يستطيع أن يكون فيلسوفا، زائدا شيئا آخر في الفلاسفة : القيمة الأخلاقية. “برتراند رسل” فيلسوفٌ رياضي إنجليزي صار داعية سلام على الأرض، وأينشتاين فيلسوف فيزياء، وأول من رفض القنبلة الذرية، ورئاسة دولة لليهود كانت تتشكل في محمية فلسطين لأنه اعتبرها دخيلة، والدكتور “زكي نجيب محمود” كان فيلسوف رياضيات وأفضل من كتب في يقظة العقل العربي.
نريد فلاسفة كيميائيين يعيدون تنظيف هوائنا، ويحذرونا من الأخطار. فهناك مدنٌ تئنّ تحت وطأة التلوث.. ورأيت من أسئلة الحاضرين بمختلف جنسياتهم رغبة في فك طلسم حجر الفلاسفة.
أولُ الأحجار مهندسٌ شاب تقدم باقتراح لجنة تطوعية لمنظفِّي البيئة من المهندسين الكيميائيين .. فتنفستُ هواءً منعشا!