سنة النشر : 02/12/2010 الصحيفة : اليوم
.. هناك كلمة في الإنجليزية هي (دي فاكتو)، وتستخدم كثيراً في العلوم والتقارير السياسية، وأيضا تفيد في المضامير والحالات البشرية المختلفة. وأقربُ معنىً لها بالعربيةِ، برأيي، هي «الواقع البديل».
فعندما يغيب «الواقعُ الأصلي»، أو يتراجع، أو يضعف، يحل محلـَّهُ الواقعُ البديلُ، وإن كانت الواجهة فقط للواقع الأصلي.. خذ مثلا أن في بعض الدول، أو المنشآت العملية، أو الدوائر الرسمية، يكون عليها مسئولٌ أولٌ في القمة في الهيكل التنظيمي، وفي الواقع يكون هذا المسئولُ ضعيفاً، أو منحسراً، أو منشغلا بما هو بعيد عن مهامه الأصلية، فيبرز شخصٌ آخر داخل الهيكل كقائدٍ قوي ويسيِّرُ الأمورَ، ويكون هو المتصرفُ أل»دي فاكتو»، الواقعُ البديل الذي يصرِّفُ الأمورَ، وتعود له كل خيوط القوة.
وكثيراً ما كنا نقرأ في الدوريات الأجنبية مثلاً أن «ديك تشيني» نائب الرئيس الأمريكي السابق «جورج بوش» هو الحاكم الفعلي (الدي فاكتو)، الواقع البديل. يصلنا كثيرٌ من الانتقادات للجهاز التعليمي في البلاد، ومنها بلا شك صحيح، ولا بد أن ينتبه لها القائمون على المشروع التعليمي في الأمة، خصوصاً متى كانت انتقاداتٍ علميةٍ مفنِّدة وبلغةٍ رصينة. وينال من هذا النقد نصيباً للمعلمين والمعلـِّماتِ، وتدور في الانترنت والصحف قصصا لخروقات يرتكبها بعض منهم، ومنهن.
ولكن تعالوا ننظر في الجهةِ الأخرى قبل اللوْم.. كان المرحومُ بإذن الله الأستاذ «ناصر الميموني»، وهو يدرس شبابا يافعين، يعتني بحالة طلابه النفسية والاجتماعية، وقدم لي مرّة شابا مناكفا، وكان واضحا أنه يعاني من متلازمة فرط الحركة وتشتت الانتباه، وهؤلاء مسألة معقدة، بين النهج العصابي، والسلوكي، والنفسي والذهني، وهم أما يكونون ملائكة على الأرض حين يٌفهَمون، أو من المجرمين الجلاف حين يُساء فهمهم، (وفي الغالبِ يُساء فهمهم!) وربما استغربتم لو عرفتم أن أكثر من 30% من المساجين في جرائم العنف والمخدرات هم من هؤلاء.
وربما ستسغربون أيضا لو عرفتم أن أكثر من تلك النسبة من العظماء والعلماء والمصلحين هم من هؤلاء أيضا.. الفارق بسيط، ولكن بأثر جلل عظيم: الفهمُ وعدم الفهم. وقتها نصحتني الدكتورة سعاد يماني رئيس جمعية فرط الحركة وتشتت الانتباه والخبيرة المعروفة في الظاهرة عالمياً، وقالت: «دعوه ينخرط في العمل التطوعي، لأن هذا النوعَ من الصغار مغرمون بالبطولة وإنقاذ اليوم».
واليوم الشابَّ نابهٌ في العمل التطوعي والمبادرات، ولا يقف من مبادرةٍ إلاّ إلى أخرى، ووصلتني منه رسالة بعد وفاة أستاذه تذيب الفولاذ. ووصلتني أكثر من مائة رسالة عن هذا الأستاذ الذي رحل لخالقه مشفوعا بالدعاء من كل من عرفه، ومعظمها من زملائه المعلمين، ومدير المدرسة الفاضل أرسل رسالة من يقرأها سيعرف قيمة أن يكون المعلمُ معلـِّماً، ورسائلُ من تلاميذه، وكثير منهم قال : «كان أبا حقيقيا لي».
وهنا الواقعُ البديل! ليس مطلوباً من المعلمات ولا المعلمين أن يتابعوا حالاتِ تلاميذهم خارج الوظيفة الصفية، ولكن كثيرا منهم يفعلون في ظل انصراف الأبِ عن مسئولياته، وانشغال البيت عن التلميذة والتلميذ فتأتي المدرِّسة أو المدرِّسُ ليَسُدّا الفراغَ العميق.. وهي ليست حالات استثنائية، فالاستثناءُ هو إغفال المعلمين والمعلمات لحالات التلاميذ النفسية والاجتماعية.
يجب أن نعترف أننا لم نعد كما كنا مع أبنائنا، فجاءت طبقةُ المعلمين والمعلمات لتحل مكان الأسرة وتكون «الواقع البديل» المؤثر، لتنبع أهميةٌ عظمى لهذه الطبقة مساوية تماما لأهميتها في التعليم.. لذا حذار أن لاننتبه لهذه الفئة التي برأيي هي الأهم في كل فئاتِ المجتمع.. وبعضهم يتعرضون للضغوط، وللأجور الهزيلة في مدارس الجهاز الرسمي وفي مدارس القطاع الخاص في ظلِّ ظروفٍ اقتصاديةٍ ساحقة..
على الأمة بمجتمعها، بقطاعاتها، بمجلسها الشوري، أن تنتبه الآن لهذا الواقعَ البديل.. قبل أن يتعرض هذا الواقعُ البديل لواقعٍ بديل آخر لا نتمنى أن نعيشه!.