مهرجان الدوخلة

سنة النشر : 28/11/2010 الصحيفة : اليوم

 

«الدوخلة سلـّة من سعف النخيل صغيرة يضع فيها الطفلُ بذرةً يرعاها نبتةً تنمو، بينما أبوه في رحلة الحج التي تستغرق شهورًا، ثم يرميها في البحر ويغني أغنية تقليدية عن الحج لمكة المكرمة، يعرفها أهلُ ساحل الخليج».

قبل حضور الأميرة عادلة بنت عبدالله بن عبدالعزيز، كنتُ في مهرجان الدوخلة، والذي يقام كل عام في منطقة القطيف.. وكانت لدينا الفرصة للجولة في داخل المهرجان.. والحقيقة لم يكن مهرجاناً فقط ، بل إنجازاً بشرياً يقارب اجتراح المستحيل. كلمة المستحيل ثقيلة أليس كذلك؟ وفيها كل حشو المبالغة.. صحيح .

على أن الذي يجعلني أزجي ذلك بعفوية صاحب الدليل، وماسك المعلومة، هو أنني رأيت بعيني تنظيماً دقيقاً في التوزيع الهندسي، وفي الفهم لطبيعة التاريخ القريب للمنطقة، وفي الإنشاء العمراني، وفي التصوير الأنثربولوجي الكامل للمنطقة قبل عهد الزيت.. يوم كان البحرُ كل العالم، ويوم كانت الأرض لا تتجاوز ما تسيره الأقدام والأنعام. إن التصوير البيئي الأنثربولوجي (الإنساني الاجتماعي) نقل بكامل طزاجته، وكأنك فعلاً استعرت آلة زمن «هـ. ج. ويلز» ورحلت قرناً إلى الوراء، لتشهدَ الأشياءَ بتربتها وطينها ومعمارها، وأثاثِ البيوت وتصميم الغرف داخل البيوت، والمقاهي السائدة.

ذلك يدل على أنه عملٌ معماريٌ ثقافيٌ اجتماعيٌ بنائيٌ تاريخيٌ لم تـُغـْفـَل فيه أدقّ التفاصيل.. حتى أني قلت للأخوة هناك: «إن الاستوديوهات التي تؤجر بآلاف الدولارات يوميًا ليمثل بها المسلسلات الخليجية التي تصور تلك الفترة ليست بهذا المستوى من الإتقان.. إنها قرية كاملة يمكن أن تنقل حالاتِ مجتمعٍ صغيرٍ بكل مسائلة المعاشية اليومية» مُذهل!

الأغرب أن ما تشهده من تفاصيل معمارية امتدت على مساحة ملعبي كرة قدم تقريبًا أقيم بالكامل في أسابيع.. وهذا شيء لا يقبله الاعتياد الواقعي، بل خذ معلومة أكثر من ذلك؛ بدأ العملُ في المشروع والبنية التحتية التي يعمل عليها مقاولُ البلدية لم تنته فأعدوا جدولاً بأن تُقام الإنشاءاتُ على أجزاء، في كل جزء مُنـْتـَه من الأرض المسلـَّمة من المقاول، يعني وكأنك تفرش بساطا على الأرض وفي كل لفة تضع كرسيا بدل أن تفرش السجادة كاملة ثم تضع الكراسي، وهذه تحتاج فوق الهندسة الإنشائية تنظيما وجدولة وقتية معقدة لا ينجح فيها عتاةُ المهندسين المشرفين على مواقع العمل، فما بالك بمجموعة من المتطوعين؟!

خذوا هذا أيضا: لم يكن أمام مشرفي المهرجان الداخلي بأقسامه وتنوعاته وأكشاكه المتعددة، وأغراضه المنتشرة، وتصميم ممراته الداخلية، بمساحة تجاور السبعة آلاف متر مربع، إلا فقط ثمانية وأربعون ساعة لأن المبنى المُعَد لم يجهز إلا في ذلك الوقت، أي منظـِّم عاقل كان سينسحب من إكمال المعرض، لأنه من المستحيل بحكم الخبرة الاحترافية أن يُعَد معرضٌ بمئات المشاركين، بأقسام متعددة، بعشرات الأكشاك في وقت أقل من سِمّ إبرة.. فالمستحيل أن يُمَرَّر الجملُ من سِمِّ إبرة.

وتحقق المستحيل نتاجاً لقوة التصميم والإرادة نحو هدف عام، وهذا أكبر عناوين وصفات المتطوعين.. وفي مهرجان الدوخلة مرّر المتطوعونَ فيلاً من سِمّ إبرة! إن هذا العملَ السنوي ضوء كامل البريق في العمل السياحي والاجتماعي والتطوعي لكامل المنطقة الشرقية، وسيكون تمثيله في «بيت الشرقية» بالجنادرية الذي يعمل عليه شخصيًا سمو أمير المنطقة إضافة ذات قيمة تأصيلية، كما أن القائمين على السياحة بالمنطقة أتوقع أنهم سيرفدون هذا العملَ المُذهل (حقًا) بل ويتبنـّوه تحت نشاطاتهم.. وسيأتي يومًا نفاخر به، ويحق لنا عندها الفخر.

ليس غريباً إذن أن تحرص الأميرة المثقفة عادلة على حضور اختتام هذه المناسبة، لأنها جهد، ولأنها رمز.. ولأنها نجاحٌ من عمل الناس للناس.