سنة النشر : 10/10/2010 الصحيفة : اليوم
.. كانت جدة الأربعاء الماضي مبهجة، ليس لأنها ليست مبهجة في العادة، ولكن هذه المرة كانت أكثر إبهاجا. ما الذي تغير في جدة ماديا في مظهرها عن الأسبق القريب؟ لا شيء. ما سبب البهجة إذن؟! يعتقد علماءُ الفضاء بأن المواد المرئية والواضحة مثل النجوم ، والمجرات، والغاز، وحتى الغبار الكوني عبارة عن جزء أقل من صغير من الحجم الكلي للكون، فمعظم كتلة هذا الكون ممّا لا نرى، ويسمونها الكونيون: المادة المظلمة Dark Matter.
وذلك يبدو غامضاً ومبهماً ، فالمادة المظلمة هي اسم أطلق على كل ما لا يرى بعين التلسكوب الكوني، لأنها أجسامٌ معتمة لا تصدر ضوءاً ولا تشع نوراً حتى يمكن رصدها.. ولا يمكن حساب حجمها ( التقريبي) إلا بمقدار تأثير جاذبية الكتل المعتمة على المادة المرئية..
وفي الأمّة متى كان العملُ الحكومي هو الوحيد في الساحة، فهذا لا يعني أن كل الأمة تعمل، بل الحقيقة أن جزءاً صغيرا منها هو الذي يعمل، أنت تعرف أن عدد شرطة المرور مثلا إن حسبته كتلة بذاته، فإنه لا يقارن حجماً بضخم كتلة عدد السائقين، من يسيطر إذن على بقية السائقين؟ هنا تأتي ما نسميه بالمواد المعتمة التي لا تصدر نورا، والحقيقة حتى ولا عملا، لتتيح بكدامتها انتشار المخالفات بأنواعها، إلا أن بدأت تضيء هذه الكتل المعتمة، وهنا يكون العملُ المدني، فهو إن بقي غير عامل وغير مشارك في كل نشاطات الأمة صار مجرد كتلة سوداء تشغل معظم حيّز الأمّة.. كل جمعية مدنية، كل عمل تطوعي، كل خدمات اجتماعية تظهر هي مثل من يضغط على مفتاح في جدار الأمة لتضيء كتلة مصباحية تضيف إنارة جديدة تقلل من مساحات الكتلة المعتمة.. إذن تقاس الأمة بالنشاط الحقيقي بين جناحين، جناح العمل الرسمي الحكومي، والجناح الآخر جناح العمل المدني.
لا يطير طيرٌ بجناح.. في الآونة الأخيرة توهج العملُ الاجتماعي المدني في معظم حقول نشاط المجتمع بالأمّة، وتهاتف الشبابُ للعمل التطوعي، مما يعني رغبة كبرى في التعلق بالوطن بالخروج من العتامة الكبيرة إلى الضوء النافذ.
كلّ يوم تقل هذه المساحة التي تشغل حيزا كبيرا ، الكتلة المعتمة.. يجب أن يعمل المجتمع المدني على التركيز على إشاعة الضوء في كل مكان، في كل نشاط، في كل ميدان، فلنضغط على مفاتيح مصابيح العمل الجماعي الفعال لتعم إشعاعات الأنوار في كل الأمة ما أمكن.. ولا تنسوا أن في المنطقة المعتمة تنتشر أيضا ما لا يُرى من الأعمال، أو ما يتخفى في الظلام.. وهي في مجملها أعمالٌ تأكل نخاعَ الأمة، وتأكل من مصادر ضيائها. في جدة كانت البهجة أكبر، لأن كبار العاملين في المجتمع المدني والخيري والتطوعي جمعتهم طاولة واحدة ، أسماءٌ كبيرة ورنانة وضعت خطا مضيئا كخطوط الشهب في حلكة السماء لتكريس العمل المدني، في سبيل إيجاد جناح آخر مواز ومساعد ومؤيد للجناح الرسمي الحكومي، حتى تقلع الأمّة لمراقي التقدم.
وكان الاجتماعُ على وزن الاستراتيجيات وليس ضمن دوائر التكتيك، عرضنا أفكارنا، وقرر الجمعُ أن تتوحد الجهود، وتكثف المصادر العينية والمادية والبشرية، وتتوزع الأدوار، والتخصصات، ووضع تصورٍ هيكلي لوجستي للعمل في المدن والنجوع والأرياف والقرى والأطراف.. وما أدراكم ما أهمية الأطراف! لم يحتجّ صوتٌ واحد، مع ضخامة سمعة المجتمعين في العمل الاقتصادي بالذات، ولم يُثر نقيعُ اعتراض، ولم يستمر الاجتماعُ طويلا، كان الاتفاقُ هو السائد، الجميعُ انطلقوا من نقطةِ لقاء، وهي أعذب نقاط الاجتماعات على الإطلاق، وأندر ما يكون..
في جدة امتدت أيادٍ لضغط زرّ إضاءة كبرى.. وننتظر الآتي، لأننا نحن- المجتمع المدني- الذي سيخطط بتوفيق الله للآتي!