البرنامج

سنة النشر : 02/05/2010 الصحيفة : اليوم

 

سيداتي سادتي :

بطلتي اسمها ميرفت. لا أعرفها، لا تعرفني..

قلبي نبضَ مع كل كلمةٍ قالتها، وكنا على قناة المجد مباشرة على الهواء، مع أخينا البديع مقدم البرنامج (شارك)، الأستاذ خالد الحازمي، والمهندس «طلال الحريقي» الذي أعتقد أنه سيدخلنا يوماً (تطوعاً) إلى حقبةٍ رقميةٍ جديدة، وحمدتُ ربي أن السيدة «ميرفت» كانت تتكلم والكاميرا بعيدة عنا، لأن الدموعَ فضحتنا.. بل إنها أفصحت عن شعورٍ دفينٍ في كل خليةٍ من خلايا جهازِنا العاطفي.

كنا في برنامجٍ جديدٍ وتحمّسنا له كل الحماسة في قناة «المجد»، هدفه التوعية بالثقافة المرورية، إلا أن البرنامجَ هذه المرة عولج بذكاءٍ صادق ومبتكَر للحد من أكبر أعدائنا الذي نشارك جميعاً في صنعه لينهش لحومَ أحبابنا؛ حوادث الطرق، بالتوعية بأمورٍ واشتراطاتِ السياقة السليمة، والجديد والابتكار هنا الاستعانة بالعاطفة، ومن يمثل العاطفة الإنسانية العُليا غير النساء. ولو كانت العاطفة الإنسانية النسائية العليا درجات فمن يحتل الدرجة الأولى غير الأمهات ؟ ولو كانت العاطفة مقسمة في التأثير على الوجدان، فليس هناك أكثر تأثيرا من الحزنِ على الراحلين، ولو كان الحزنُ على الراحلين درجاتٍ فمن يحتل قمة هذا الروعِ الحزين غير أم فـُجِعَتْ بقطعة قلبها، بمعنى كل حياتها : ابنٌ من أبنائها.. لا أظن أن حزناً في العالم يوازي هذا الحزنَ.. ولو وُضِعَتْ حممُ كل براكين العالم المستطيرة بالنار في قلب الأم لفضلتها بلا تردد عن آهة ألمٍ تنطلق من توجّع ابن؟

لذا كانت ميرفت، بطلتي، بطلتنا كلنا بذاك البرنامج، بل بطلة الأمّة.

وقفت «ميرفت» أمام المشاهدين بصوتها الثابت الحزين وقالت : «فقدتُ ابني على الطريق وكان مع أبيه، وأبلغني زوجي.. «. آه، الله وحده يعلم ما اعتملَ في قلب وكل وجود «ميرفت» في تلك اللحظة.. لكنها بشيءٍ يضارع المستحيلَ عينَه، وظفـَّتْ الحزنَ الهائلَ وقوداً هائلا يغذي مولـِّدَ المحبةِ نحو الأمهات، بل لنا كلنا بلا استثناء، في أي موقع نكون، لتقول : «اتبعوا، واعرفوا أصول السلامة في القيادة، أرجوكم». «ميرفت» لا تريد أن يتذوقَ أحدٌ علقمَ مرارةِ الألم الذي في قلبها.. ولعل الله ينزل عليها السكينة والاطمئنان، بأن جعلها أعظم وسيلة للتنبيه، أكبر جرسٍ يقرع أمام وعي هذه الأمة التي ترى أن في طرقها أكبر وحش في العالم بمعدل السكان، ومعدل العمر من الشباب تتقطع لحومُهم فوق الإسفلتِ الأسود، ليصيروا أشباحاً من الحزن تطوف بقلوب ووعي ويقظة ونوم أمهاتهم وآبائهم من أحبهم.. وخسرنا مستقبلا بآلاف الأرواح، منهم من كان سيُقدَّر له أن يقدّم فتحاً لأمّتِه..

لذا خرجت «جمعية أمهات وأقارب ضحايا الحوادث» في المنطقة الشرقة، وأني أنتمي لهذه الجمعية الناشئة بطلبٍ منهم، لا بمبادرةٍ مني.. ومع انتمائي لعشرات النشاطات، إلا أن هذه جاءت تاجاً فريداً على رأسٍ لا يساوي التاجَ الذي سيوضع عليه.

تصوروا أن الأمهاتِ المؤسسات لهذه الجمعية اللاتي فقـَدْنَ أجزاءً من وجودهن وقلوبهن إلى الأبد، في الطرق، وظـَّفـْنَ الحزنَ طاقةً للعطاءِ والتوعية، ليثبتن موقفاً إنسانياً شاهقا في نكران الذات، وفي حبٍّ منقطع للناس، للمجتمع، للأمة.. فقدن أرواح أعز الناس عندهن، ليحاولن بكل ما أوتين أن ينقذن أرواحَ أعز الناس لدى كل الناس.. كيف أصفهن؟ الأحسن ألاّ أفعل!

يقول لي الأستاذ الحازمي : «لو قٌيض لي عن طريق البرنامج أن أنقِذ روحاً واحدة لكفاني» وباللهِ صدَق. إن جهودَ تلك الأمهات وأقارب ضحايا الحوادث تدُق ناقوسا عملاقا، برناتٍ صاخبةٍ لإيقاظ هذه الأمّة إدراكا ووعيا على أبشع واقع تعانيه. إن أمّة لا تستجيب، وشعبا لا يسمع لهذا الناقوس.. لن يستيقظا أبدا!

الشكر يزحفُ صغيراً شاحباً متخاذلاً لمَنْ قُمنَ بتأسيس هذه الجمعية، ولجمعية «ودّ» التي احتضنتهن من التأسيس، ولِـ «سايتِك» التي كانت مقراً لأول بزوغهن، ولجريدة «اليوم» التي لم تتردد في رعاية كامل البرنامج، وستؤكد عملقتها الاجتماعية من هنا، ولشركة «جلوبال السحيمي» التي رعتْ إعلاناتٍ للسلامة غاية في الابتكار والتفاؤل، لتثبت أن القطاعَ الخاص يجب أن يغمس يدَه عميقا في كل عملٍ اجتماعي، بل أن يعتبره أصلا من الأصول الرابحة والمُدِرّة..

ويا سيدتي ميرفت.. ما أصغرني أمامك.