سنة النشر : 17/10/2009 الصحيفة : اليوم
.. المتعافون من المخدرات عندما يخرجون من مقار الاستشفاء مثل مستشفيات الأمل يستقبلهم شبحُ الضياع، يقفزون إلى هوّةٍ لا يعلمون لها قرارا.. وللسخرية المؤلمة لا يبقى لهم إلا اللجوء للأمان الساحق الوهمي: المخدراتُ مرة أخرى!
وفوجئت بمكالمة من أخي «مساعد السليم» يطلب مني زيارة «تعافي».. تعافي؟ ما هي تعافي؟ من أين بزغت هذه التعافي؟ وكي أتعرف على أعمال الجمعية.. أية جمعيةٍ يتحدث عنها؟ وماذا تعمل؟ ولماذا تظن أنها جمعية؟ وتابعني «مساعد» كالظل الذي لا يذهب حتى يعود، ويصر أن أرى تجربتَهم بالنسبة للمتعافين من المخدرات؟ يا رجل .. طالت وكبرت.. كيف؟! تستقبل المتعافين؟!! وقلتُ إن هذا الرجلَ يضرب في الأحلام، ويأمل بما فوق الواقع، فاستقبالُ وتأهيلُ المتعافين من المخدرات فوق أنه أمرٌ جليلٌ وسامٍ وأراه ركنا تُبنى عليه المشاعرُ الإنسانية، إلا أنه صعبٌ، ودونه بحارُ الظلام، ووحوش الأساطير الحارسة للكهوف..
هكذا دوما يقولون لنا: التوبة والعودة الكاملة من المخدرات من صعوبات الدنيا التي تُعَد. غير أن الرجلَ لم يبق سلاحا يستخدمه، إلا سلاحَ القُربى، وأكبرت له ذلك. أكبرتُ أنه يتكلم باسم جمعيته، لشخص عام وكان بإمكانه أن يأخذني بيدي.. ولكن هنا سرّ التطوع هو الانفصام التام عن الكينونة الشخصية، إنه نوعٌ من الذهولِ والغيبةِ الحميدتـَين في العمل التطوعي الخيري الذي نذرت نفسَك له ومن أجلِه. فذهبت.. وهناك عرفت مدى عنادي وقصر بصيرتي، وتكرّرُ هذه الصفة التي تتبعني مثل حبلٍ غليظٍ يجرّني إلى الوراء فيثقل تقبلي وتفهمي للأمور، وهي الحكم المسبق.
فقلةُ الصبر، والتسرعُ بإطلاق الأحكام من أوضع صفات العقل والحكمة وأنا للأسف مصابٌ بهما.. ووعيت بعين الواقع على عملٍ جليل.. هذا البيتُ الصغير المعلق عليه لوحة «تعافي» لا ينتبه لها الناس، وفيه يجري عملٌ من أبهى الأعمال التي من الممكن أن يقدمها إنسانٌ لأخيه الإنسان، مسلمٌ لأخيه المسلم، سعودي لأخيه السعودي، ويقدمونه لإخوانهم وأحبابهم من أبناء الخليج. وعملهم أثبت شيئاً مهماً وأمام عيني، رأيت المتعافين أنفسَهَم يقودون بعض أعمال ونشاطات الجمعية، ولولا السريّة لأفصحتُ عن شخصياتٍ أقف لها احتراما.
ولقد أثبت هؤلاء القليلون القائمون على الجمعية أن مسألة استحالة عودة المتعافي إلى تيار الحياة الطبيعية مجرد خرافة كبرى، اخترعناها فصدقناها. هذه الجمعية التي ستراها على رأس زاوية شارعين عندما تنحرفُ جنوبا من طريق سعد في الدمام.. التي قد لا يعرفها أحد، يجب أن يعرفها كل أحد. إنهم يستقبلون المتعافين قبل تلك الهوة التي تحدثنا عنها، قبل الضياع، فيوفرون لهم السكنَ والمصروفَ والغذاء، ويؤهلونهم للإنخراط مع المجتمع العام كآباءٍ وموظفين وعاملين وتحت كفالة كلمتهم وشهادتهم.. ولم يرتد أحد.
وهناك نوادر ارتدادٍ سرعان ما مسكتْ الجادة الصحيحة مرة أخرى. عملٌ يحمل الجمالَ والخيرَ والإبهار. شيءٌ آخر، إن لم تكون هذه الجمعية هي الوحيدة التي تقدم هذه النوعَ من الخدمات لمتعافي المخدرات بالشرق الأوسط فهي كما فهمتُ الوحيدة في الخليج.
هؤلاء الأخيارُ الذين يقومون عنا، بالنيابة عن مجتمعهم، وبجهودٍ مستقلةٍ عن أي جهةٍ رسمية، بالحرص على فئةٍ من هذا المجتمع كان سيكتمل ضياعُها الأخير، وخطرها المستطير، وبنتائج لامعةٍ مشرقةٍ رغم ضآلة العدد، وفقر المساهمة، وقلة التشجيع، وشحّ الأموال.. أقل ما يجب أن يفعله هذا المجتمعُ هو أن يضمن لهم الاستمرارَ والنمو.. من أجلنا نحن كلنا قبل كل شيء.
زوروهم، هاتفوهم، تعرفوا عليهم، ساعدوهم.. وأول من سيكون معهم بإذن الله هم فريقُ أولاد وبنات الدمام.. هذا ما وعدتهم، وهذا ما يفخر أن يقوم به البناتُ والأولاد.. بقي.. نحن!