ما سرُّ قذائفـك يا العوضي؟!

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

.. يبدو أن برنامجَ قذائف العوضي في الحلقتين اللتين صورناهما معا، قد أزاحت غطاءً كثيفا عن الذين أسميناهم بالأمس: "المسكوت عنهم"، هؤلاء الأولاد والبنات الذين أقلقهم الشك، وأكلتْ عقولـَهم الأسئلة ُوانتابهم الخوفُ من حجم السؤال الفظيع الذي يسلخ قشرة العقل بعد أن أرهق سكينة الروح.. ثم الخوفُ الشديد، بل الرعبُ المقيم من ردود فعل المجتمع القريب والبعيد لو أنهم يوما تجرأوا وأعلنوا عن الأسئلة التي تنبع في العقل من غير إرادتهم، فلو كان الوجود المادي الإنساني مثل العربة في الطريق فإن العقلَ في كثير من الأحيان يقرر القفز للأمام ويتولى هو القيادة.. عندها يكون الإنسانُ لا يملك أن يتصرف بعقلِه ولا بما يدور بعقله، ويكون السؤالُ أو حمم الأسئلة تغلي في العقل وتريد منسما أو مخرجا وإلا انفجرت في العقل، وانفجاراتُ العقل هي هذه الأمراض العقلية، والمتلازمات النفسية التي قد تؤدي بالمرءِ في عنفوانه إلى طرق الضياع النهائي، وأي جزء من أجيالنا الطالعة يضيع، فإن جزءا كاملا من كياننا يضيع معهم..

وبينما نركز فقط على شباب من الجانب الآخر الذي نعتقد أنهم يشكلون خطرا بتعصبهم الديني وفكرهم المتيبس، ننسى تماما هؤلاء الشبابَ المستقرين بالقاع، وفي القاع لو علمنا دائما تتمخض إرهاصات التغيير.. ولكن من حيث لا نعلم، ولا نشعر.. إلا بعد فوات الأوان، بعد أن تكبر وتتعملق فيفتش عنها سطحُ الماء، بل هي التي شقت السطحَ بجسامتها لتطل بعد أن ملأت القاعَ وما فوق القاع..

جاءت قذائف العوضي في الرأي، لتدل بالشكل القاطع عن وجود فئةٍ كبيرة من طلائعنا يعصرها الشك العظيم، ويقلقها، ولو أن العوضي في برنامجه هذا لم يكشف إلا عن هذه الفئة المسكوت عنها، والتي يهدد الشك والحيرة هناء وجودها، كما تهدد سكينة مسلماتنا، ورتابة حياتنا، وأظهرهم للهواء، لكفاه عملا صالحا بإذن الله.. أما ما دليلي، فهو ما يملأ الأسماع والأبصار، فيمن حادثونا، فيمن راسلونا فيمن اجتمعنا بهم.. وعندما تعرفت على أولاد وبنات في بواكير الحياة أحببتهم من أول وهلة، فهم ليسوا من المجرمين، ولا من المنحرفين، هم يحتاجون إلى من يحبهم، ويأخذهم بالحب والمحادثة الحبية، والحدب الكبير إلى طريق الضياء والسكينة.. الأعجب.. أن الله لم يتخل عنهم، فكيف نتخلى عنهم؟

ولكني كيف أقول إن الله لم يتخل عنهم.. هل ذاك من نوافل الدعاء وحسب؟

لا، الأعجب، وأنت قد لا تصدق الذي يحصل، لأني أنا شخصيا لم أصدق نفسي.. الذي حصل فوق أي توقع، لقد كان رجوعهم إلى جادة الإيمان، ومساحات الحقيقة العليا، ومراتع الطمأنينة والسكينة أسرع مما تصورنا، بل أذهلنا. ولقد سجلت وحفظت الرسائل التي وصلتني بهذا الخصوص، أو وصلت للدكتور محمد العوضي.. وقلنا كما يردد الشيخ المضيء: الله أكبر.. الله أكبر.

بعد الحلقة الأولى تلقيت اتصالات بالإنترنت، أو بالهاتف من أشخاص تعتصر رحيق حياتهم الأسئلة، وتخنقهم، وتلتف لتلتهم عقولهم كزواحف ضاريةٍ مفترسة، أو كأفعى تلتف وتعصر، ثم تزيد عصرا.. وعصرا.. حتى تضيق مصادرُ النور، وتختفي.. وتظلم..

على أن الإيمان نجمة بعيدة في سماءٍ مدلهمة، والثابت أن النجمة باقية بنورها، وأن الغمامَ والسديمَ ينقشع من أول محاولة لتحريكه، وحتى نحركه لا بد أن نعترف بوجوده، وحتى نعترف بوجوده لابد أن نعرفه، وحتى نعرفه، لا بد أن نحلل عناصره، ولما نحلل عناصره نعرف من تركيبته كيف يتحلل هباء في الفضاء ويختفي لتلمع النجمة في سقف الكون من جديد، كما قدّر المنشئُ لها من البدء.

لقد تلقيتُ مكالماتٍ والشيخ كذلك ونحن معا من مشائخ الأمة ومن مفكريها ومن علماء في خارج البلاد العربية، وأكاديميين ومشاهدين وقراء وأهل وأصدقاء يقولون إن الخط جديد، وإنه لافت، وإن فيه الكثير من التفاؤل والرجاء والمحبة.. والكلمة الأخيرة تحمل كل شيء، وهي بداية أي شيء، وهي الوسيلة في كل شيء.. ودونها لا يحصل أي شيء!

كثير من الشباب راسلوني بأسئلتهم التي تفزعهم، والكثير منهم تلقى تأنيبا عنيفا من شيوخ بادروا في الاستفسار منهم، جعلهم لا يفكروا في إعادة المحاولة مرة أخرى فجاءت الحلقة الأولى حول الشك واليقين وكانت فتحا لهم كما قال لي شاب اخترت رسالته للنشر، وأرسلت كامل رسالته مع عنوانه للشيخ العوضي، الذي لم يتوان أن ينشرها ويعلق عليها في محاضرة في البحرين، وبرنامج في الكويت، ومقال في صحيفة كويتية، ولقد استمع الشاب بشغف للحلقة الثانية وسمع الشيخَ يقرأ الرسالة ثم أرسل لنا رسالة تنضح بالإيمان وأنه توضأ وراح يشكر ربه في المسجد.. وقال: أرسل الله لي علامة.. أنه يحبني.

وفي الكويت اجتمعت مع أشخاص غربلتهم الأسئلة والمعتقدات وجلسنا معهم بعد أن شاهدوا البرنامج: ومن رسالة جاءت عن طريق وسيط وأرسلت للشيخ تقول: نشكر لك أنك قدمت لنا هدية حياتنا بالجلوس مع ضيفك نجيب.. لقد امتلأ فراغ في أرواحنا، ولقد خرجنا وكأن أجنحة تنقلنا لأجواء السعادة.. ولقد صلينا لله ربكما الذي أبدع أفضل من رأيناهما في كل حياتنا..".

بالله عليك.. ألا تحبهم؟ ألا يحبهم الله؟ إن الرجوعَ إلى الحق بسيط، ولا يحتاج إلا لدفعةٍ بسيطةٍ جدا، هي المحبة.. ومع المحبة يجيء القبولُ والتفهمُ والحرصُ والصدقُ والإخلاصُ في محبة من تحاور، والاحترام بل الاحترامُ الكبير.. أما التحقيرُ فهو ليس أقرب الطرق للضلال.. بل هو الضلال مجسدا ينشر جناحَيْهِ فيحجبُ الأنوار..

"قذائفُ" يا العوضي؟ ولكنها، قذائفٌ من زهرٍ تحملُ عطرَ حُبـِّكَ للقلوبِ.. والنجوم!