اعكسوا الطريقَ .. فقط!

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

العالمُ مكوناتـُه الانقسام، أو سمِّهِ وحدةً كونيةً عظيمةً من الانقساماتِ الكبيرة ومن الشظايا الصغيرة. وترى أن العالمَ مبنيٌ على تكاملٍ حيوي في الطبيعةِ البيولوجيةِ للبشر والكائناتِ والنبات، ومن حيث الجغرافيا، ومن حيث الطقس. والذي يجعل أي أمةٍ مختلة الانسجام ليس شكل الإنسان بمظهره أو لونِه، فهناك دولٌ فيها كل الخليط وهي وحدةٌ كاملةٌ متحدةٌ ومنسجمةٌ ومتساويةُ العناصر. الانقسام يأتي في الأفكارِ وفي الدين، وفي العنصرِ النشيطِ الانقسام: السياسة المبنية على مصالحٍ ضيقة. لو كان الناسُ دينا واحداً لما اختلفوا ولكنهم يتصارعون بوحشيةٍ أبعد ما تكون عن الطهرِ السماوي حين تدخل السياسةُ أو المصلحةُ أو النرجسية الفكرية. الدينُ متماسكٌ مادام متصلا بالسماءِ والنيات تسلك الطريق ذاته. وما إن تبدأ خلافاتُ الفكرِ، وتعصبُ السياسةِ، وعمى المصلحة حتى يكون الدينُ أكبر طاحونةٍ للدم في التاريخ.

وكان للعلم أن يوحّد العالمَ، فالعلماءُ وطنهم المعرفة، ومواطنوهم من الجنس والنوع ذاته، اللاهثون في معارج المعرفة. وترى أن فئاتٍ وفيالق وفرقا من العلماءِ تنضم معا في بوتقات وتنصهر ببعضها في لِحمة خالصة، سداتها التفاني في العمل الموزع الدقيق والمعتمد على حلقاتٍ متصلةٍ بسلسلة يجب ألا تنفصم، فإذا الجميع يربط هذه السلسلة ليس فقط من أجلها، ولكن أيضا من أجل وجودهم وإشفاء سباقهم المتعطش لرواء العلم والبحث.. وحيث لا سياسة في العلم المعملي.

السياسة المصلحية الضيقة تتدخل وتفسد، فهذا النوعُ من السياسةِ ضميرٌ كامنٌ باطنٌ يتفنن في الخفاءِ والاختفاءِ، صِنـْعَتـًه ألا يُخرِج ما يُبطِن، وأن يبدو وجهاً على الدوام مغلـّفاً بقناع، قناعٌ جامدٌ خالٍ من التعابير.

ونجد أن اللغة والدينَ، وسمهما كما يقول الإنسانيون الحضارة الواحدة، تزيد من ارتباط الأمة، بل إن شيئا يسجله التاريخُ ألأممي طريفٌ، وهو أن الاتحادَ المبني على الحضارة في اللغة والدين يتبادل الموقع من الأرضيةِ المتوحدةِ نفسها متى ما سادت الفكرة أو العنصر الأعلى. وبما أننا نؤمن أن الدينَ هو العنصر الأعلى في الحضارة الواحدة ( لما يكون تطبيقيا دينا سماوياً خالص النيات، خالياً من الكهنوتِ والطبقيةِ الدينية، وعنصر المصالح الذي تحدثنا عنه) فإنه يكون عامِلا ضامّاً، ويتكون رتوقاً وليس شقوقاً في القماش الوطني. وانظر أن اليهود كانوا يبرزون في الأندلس ونعرفهم بأندلسيتهم لا بيهوديتهم، وصهرت الحضارة العربية في الأندلس كل العناصر التي كان مفهوما ألا تتحد.

نقول، عندما يسود العنصرً الأسمى تتحد معه بالضرورة والتلقائية العناصر الأصغر، على أنه من المستحيل أن يكون انصهارا صحيحا ناعما حدود التلاحم وأطراف التلاقي، إن لم يكن للجميع قدر واحد من العناية والواجب .. أي خلل في تلك المساواةِ، فإن الرتوقَ الصغيرة تصير شقوقا.. وندرك أن شقاً صغيراً يمرّ منه زاحفٌ من الزواحف كافٍ مع الزمن لهد الجسدِ.. كل الجسد!

وبلدنا ليس له مثالٌ في العالم .. ربما. حضارةٌ واحدةٌ بدينٍ ولغة واحدة، ليست هناك إثنياتٌ أو أديان، ولكن (قد) تدخل الزواحفُ فتفتت الكتلة الواحدة، وليس في الدنيا عنصرٌ لا يتهاوى بالإصرار بالهدم مهما كان نقياً وصلباً، وبراقا.. كالألماس.

كيف يبدأ ألانقسامُ في أمةٍ قليلة عناصر الانقسام؟

باختصارٍ شديدٍ، عدةُ عوامل تسهم في انقسام حتى أمة متماسكة مثل أمتنا منها:

- الاختلافُ نحو التشريع العام: أهو الدينُ خالصا، أم هو الدينُ ممهورا فيما لا بد من أن يمهر به من أنظمةٍ وضعيةٍ تتطلبها مصلحة الأمة وطبيعة الزمان ومدى التساهل أو التشدد في هذه الأمور الحياتية وكيفية تفصيلها وشرحها ونسب قبولها في متن التشريع .. فيبدأ نقاشٌ قد ينتهي إلى انقسام.

- الاختلاف في الأفكار: تختلف الأفكارُ في النظرةِ الدينية ذاتها فيظهر محافظون، ويسميهم آخرون "متحجِّرين"، ويظهر مطالبون بالتغيير والإضافة والأخذ من الخارج والتطعيم ويسميهم المحافظون "علمانيين". ثم التنابز بالألقاب، وتبدأ شقوقٌ صغيرةٌ متناثرةٌ بقماش الأمةِ ثم تتزاحم وتتلاقى لتنمو إلى تمزقٍ صعب الرتق.. والأمة كالسدِّ كلما كثرت الصدوعُ به قلت مقاومته للضغطِ العارم خلفه.

- الاختلافُ الفئوي: ويبدأ عندما تبدأ الأمةُ تنقسم إلى طبقاتٍ أو فئاتٍ، كأن تـُوجـَّه فئة ضد فئةٍ، فتلوم فئةٌ القطاعَ الخاص، وفئة تلوم القطاعَ الرسمي، وخلافٌ بين القطاع الرسمي، والخاصِّ، والعام .. وهي عجلةٌ تدور وتطوي في كل دورةٍ الحجرَ والمساميرَ فتدورُ عرجاءً، وتتابع المسيرَ في طريقٍ وعرٍ ولكنه، فوق المشقةِ، يقود للمكان الخاطئ.

- الاختلافاتُ في وحدات المجتمع: وتبرز قرونٌ للشرورِ مشذبة وحادة، ومنقوعة بالسموم، وهي المذهبية، والقبلية، والنخبوية، وقبائلُ أصحابِ المصلحة والمهن والمنافع.

- والعنصر الأخير ( أو النتيجة؟!): فقدانُ الثقة.

وعندما نحددُ عناصرَ الهدم، فإن الحلولَ أن نسير بطريقٍ يعاكسها تماما، وهو طريقٌ سيوصلنا إلى سهولٍ غنـّاء آمنةٍ.. وخضراء!