سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
* "من كانت أمريكا صديقتـُه، فهو لم يعد بحاجةٍ لأعداء!"
هل هي مؤامرة كبرى قام بها الأمريكان؟ هل أمريكا قررت أن تدير ظهرَها للعالم؟ لماذا ظهرت اقتصاداتُ دولٍ أقوى وأمتنُ من الاقتصادِ الأمريكي، ثم تأتي الأزمة الأمريكية وتهزها من أسسها ومرتكزاتها؟
أمريكا هي صندوق العالم، أمريكا محفظة استثماراته الأولى، أمريكا الحسابُ الجاري، وحسابُ الوادائع الأكبر في الكرةِ الأرضية. عند أمريكا نضعُ أموالـَنا، ونؤمِّنُ على أصولِنا، ونحمي مكتسباتـَنا. لسنا نحن فقط بل.. بقية العالم.
فشل الولايات المتحدة في انتشال اقتصادِها من حضيضِهِ يهدّد الأرضياتِ التحتيةَ لمعظم اقتصادات العالم، كبيرها وصغيرها، من تدخل معه أمريكا في تحالفاتٍ اقتصاديةٍ ومن ينوءُ عنها بأبعد ما يكون من أنواع التعاملات. كلنا اعتمدنا على أمريكا، ويكتشف العالمُ الآن أنه وضع رقبتـَه الاقتصادية عند من يملك سكّيناً مثلومة، وكان يظنها سكينا حادة تقطع وتوزع كعكة الاقتصاد العالمي بالنظام الراسخ، فإذا هي بحدِّها المثلومِ تصل لرقاب كل اقتصاد، وأول ما طالتْ رقبة َالاقتصادِ الأمريكي نفسه..
وهنا يثور سؤالٌ منطقيُ جداً: إذا كانت السكينُ قد وضِعَتْ على رقبةِ الاقتصاد الأمريكي فكيف تكون خائنة للعالم؟ صحيح، ولكن لا تنسى أن بإمكان أمريكا أن تخونَ نفسها.. إن لشارع "وول ستريت" رهبة تهز قلاع واشنطن السياسية والحمائية، والذي حصل أن "وول ستريت"، كما ضربتُ المثالَ سابقا، فلـَتَ ثورُهُ الشهيرُ من عقالِه وراح يضطرمُ بغيظٍ وبفورة الوحش المنطلق من إسارهِ وسط متجر الخزف الأمريكي ومعه كل فروعِه العالمية.. والحصيلةُ أن إعادة الخزفِ كما كان يقارب المستحيل. وربما كان الحلّ: إقفالُ كل متاجر الخزف.. وفتح مخازنَ جديدة بمحتوياتٍ جديدة..
والثورُ ببساطة هو الطمع.
لقد تخلت المؤسسات المصرفية الكبرى عن دورها التقليدي في دعم الاقتصاد الوطني، ودعم الشركات العاملة، والقطاعات المنتجة، إلى شرَهٍ جنوني في استيلاد المال من المال.. أقصى أنواع الطمع وأغباه. وكل هذا تم تحت نظر ورقابة السلطات الفيدرالية المالية الأمريكية، بل ربما بمباركةٍ منها، أو من مجموعات الضغط المالية الجبّارة النفوذ.. وهنا أقسى أنواع الخيانة، الخيانة من الداخل. والأطبّاءُ يعرفون أن أشرس الأمراض على الإطلاق هي عندما تهاجم مناعةُ الجسدِ نفسَها.. فيحار الطبيبُ، ويفتك المرضُ. في ظني هذا ما حصل تماما، هذه الخروقات بالمنتجات الجديدة، وأستطيع أن أسرد لك قائمة بعشرات المسميات الجديدة التي اخترعها "مستولدو المال" في المصارف الكبرى حتى صارت موجة ضربت صرعتها كل بنوك الدنيا.. وهذا كان سببُ ازدهارِ أسواق المال دفعة واحدة في وقتٍ واحدٍ، ثم سقوطها من عَلٍ للهاوية.. جارّةً معها مقدّراتِ الناس ومدّخراتهم وما تبقى من عقولهم.
لذا، من المفيد، ولكن ليس الشافي تماما، الابتعادُ عن مصادقةِ أمريكا ماليا، فإن كانت أمريكا قادرة على معاداة نفسها من نفسِها، فهل ستترك مدخراتـنا ومكتسباتـنا الهاجعة في بنوكِها بأمانٍ وسلام؟ أقول لك بمنطقي المحدود، وبالبساطةِ الأولى: مستحيل! ولو أتى عتاةُ المالِ والخبراءُ من عندنا، أو من الخارج، لما استطعتُ أن أقتنع حتى وهم يفوقونني علما واطلاعا أضعافا مضاعفة. من يُقنِع أي إنسان أن الفِطرة لا تسود؟ وهنا المنطق الإنساني الأساسي. انظر إلى من يُنقذ غريقا، خبراءُ الإنقاذ يعلمون المنقذين في أول التحاقهم بصفوف الإنقاذ ليس إنقاذ الغريق، بل كيف يتصرفون حتى لا يتعلق بهم الغريقُ فيغرقهم معه آمِلاً أن يصعدَ إلى الهواء على حسابهم.. بل حساب حياتهم.
الاقتصادُ الأمريكي يغرقُ حالياً ، حتى هذه السبعمائة مليار دولار التي نزعها الرئيسُ الأمريكي ضمن خطتِه لانتشال الوضع المالي من مأزقِهِ لم تخرج إلا بشقّ الأنفس، وما زالت مبلغاً مضحِكاً في ضآلتها أمام الأرقام الحقيقية للخسارة.
الخطرُ، كما أحسبُ، لن يكون دقيقا إن قلنا إنه سيأتينا، بل الأدقّ أن نقول إنه أصابنا وصار.. ولذا كنتُ وما زلتُ أنادي أن يخبرنا العارفون بضميرٍ صادق عما يحصل وحصل. لا يصدق واحدٌ من الشعبِ السعودي، أو من أي شعب على الأرض، من يأتي ويقول إن اقتصادَنا محروسٌ بقوىً ما ورائية سحرية من الانهيار الذي وقع على رأس كل العالم.
الأوروبيون الكبار، حلفاءُ أمريكا، ما كانوا يسمَّونَ بدول أوروبا الغربية، والذين أنقذهم "مشروع مارشال" الأمريكي، وطبقوا من بعد الرأسمالية الأمريكية بحذافيرها، ما عدا تحفظاتٍ اسكندنافية، وبعض الحكومات المتوالية الميّالة لليسار، خرجوا الآن بنظرية "كازينو الرأسمالية" وهذه نظرية جديدة لم تـُخترَع بل كشفت عنها الممارساتُ التي نبعَتْ من "وول ستريت" وصبـَّتْ في جداولِ الاقتصاد الأرضي.. ومن عنوانها نعرف أنها قائمة على المقامرةِ، وإحداث الثروات الكبرى في غمضةِ عينٍ من نيويورك إلى لندن، إلى موسكو.. وحتى مومباي. وما يأتي في غمضة عين، يختفي بذات الطريقة!
الأوروبيون اللاتينيون (فرنسا، والبقية) صرخوا في مؤتمراتهم أخيرا: لقد مللنا من الرأسماليةِ الأنجلو سكسونية، أي أنهم يتبرأون من النظام الرأسمالي الذي يغمرهم وكأنها جريمة ارتكبها ضدّهم الأمريكانُ والبريطان.
نحتاج الآن إلى أن نـُنقِذ أنفسَنا بأنفسِنا ما أمكن، فجميعُ المنقذين مشغولون.. بإنقاذِ أنفسِهم!