سنة النشر : 21/02/2009 الصحيفة : الاقتصادية
..اتصلت بي جريدة خارجية تُطبَع بالإنجليزية، وطلبت مني مشاركة بمناسبة "يوم العدل العالمي الاجتماعي الأول". واستغربتُ دون أن أبدي مفاجأتي وجهلي للمتـَّصلة.. يومٌ عالمي أولٌ للعدل الاجتماعي؟.. يا سلام!
ووعدتها أني سأفعل.. وفعلت.
لقد راقني فعلاً أن يكون هناك يومٌ أو حتى أسبوعٌ للعدل الاجتماعي في العالم، وتتبعه مؤتمراتٌ واتفاقات.. وليت العدلَ الاجتماعي داخل الدول والمجتمعات يناله من الحظ ما نال السلعَ والخدماتِ في كل دولةٍ باتفاقية التجارة العالمية..
لو أن هناك منظمةً للعدل الاجتماعي على نسق منظمة التجارة العالمية تـُعنى بالعدل في استحقاق الشعوب لحقوقها، لأضفنا لكوكبنا معنىً جميلاً، صحيح أن هناك محكمة للعدل في لاهاي الهولندية، ولكنها للتقاضي والتحاكم بين الدول أو في المسائل الدولية، ولكن أن تكون هناك منظمة تحشر نفسَها في تطبيق العدل الاجتماعي في كل مجتمع على حِدةٍ، كما شرطتْ منظمة التجارة على كل دولةٍ في التصرف بمنتجاتها وسلعها وفي استيرادها وتصديرها، فهذا ليس موجودا حتى الآن.. وربما كان يومُ العدل الدولي الاجتماعي إيذاناً بقرب تأسيسها.
ولقد رأيتُ أن أسهل ما أكتب عنه هو العدل الاجتماعي، الذي هو أساسُ أي حكم وطلب للسلام والوئام في أي أمّة.. وذلك نهلاً من الإسلام. لم أفتح في مكتبتي كتابا أو مرجعا إسلاميا إلا وأجد بحوثاً طويلة وأماثيل عن العدل الاجتماعي وتطيبقات هذا العدل، وقبل أن يقول الفاروقُ: "متى استعبدتم الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"، وهذه القصة بالذات كلمني حولها المشرفُ على جمع المقالاتِ في تلك الجريدة الناطقة بالإنجليزية، وقال لي: "أهذه القصة حقيقية؟ وهل هي بالوقائع التي ذكرتها؟ أم أنك أضفتَ إليها ما يُضفي الروائي من مخيلته؟"، فأحلته لكتابٍ أجنبي صدر لكاتبٍ أجنبي لم يعتنق الإسلامَ، وكان قد ذكر القصة كاملة، وأضاف:" قد يكون هذا الحاكمُ (وأنا أترجمها حرفيا من الإنجليزية، فعمر رضي الله عنه خليفة، وللكلمةِ مرادفٌ باللغة الإنجليزية مشتق من العربية) من أعدل الناس في زمانه، إن لم يسبق الأولين والآخرين.."، ورجع المشرفُ وقال لي: إنه سيضع هذه الجملة بعد العنوان الكبير (درجتْ في المقالات الأجنبية والكتب أن يكون هناك عنوانٌ رئيس ثم تحته عنوانٌ صغير يضيف تفسيرا أوضح للموضوع)..
على أن الرجلَ لم يكتف، فسألني: أنتم تطبقون الإسلام كقانون في بلادكم، أليس كذلك؟ قلت له: نعم.. قال: "وهل يطبق هذا العدلُ في بلادكم".. أجبته: "إن شاء الله".
على أننا لا بد أن نسأل أنفسَنا هذا السؤال ونجيب عنه بصراحةٍ وبلا مواربة.. إنه كأن تنظر مستقيما عينك إلى عين الواقع وتعترف، وتصور ما تراه وتنقله كما هو، حتى يمكنك، ويمكن غيرك الحكمَ عليه..
والعدلُ الاجتماعي ليس درجات ولا مقسما لفئات، ولا لعناصر دون عناصر.. إنه مساواة مطلقة. ولقد بدأت مقالتي لتلك الجريدة بجملةٍ لطلما قرأتها، وطالما قرأها كل منكم.. ولكني هذه المرة رحتُ أتأمل بها وبمعانيها وبعظمةِ اختصارها، وكفاية شمولها، ونصوع أهدافِها.. وكلـّما أعدتُ التفكُّرَ والتأملَ وجدت عُمقا جديدا.. ولو كانت هي رائدة أي دولةٍ في العدل الاجتماعي لكفتها.. وفاضت. فالعدلُ بالإسلام تشمله هذه المظلة الضامة: "العدلُ هو إعطاءُ كل ذي حقٍّ حقه".. هل ترى معي؟ هل توافقني على مدى شمولية وقوة وصرامة المعنى هنا؟
لكل فردٍ في هذه الأمة - وأي أمة- حقوق معروفة ويجب أن يأخذها بلا مطالبةٍ ولا مراجعةٍ ولا كفاحٍ بالتمام غير منقوصة.. أي نقصٍ فهو جورٌ وهو ظلمٌ وهو تعدٍّ على معنى العدل الاجتماعي بمعناه المدني، فكيف يكون هنا حجمُ التعدّي عندما نقيسه بتعليمات السماء؟
ويوم العدل الدولي الاجتماعي، يبحث في المعاني التي طالما تحدث عنها الناسُ والقادة عبر الأزمنة وعبر الأمكنة، التي تتعلق بالسعي إلى استئصال الفقر والجهل والمرض ونشر المعرفة والعلوم للجميع، ومساواة الفرص بين كل من يستظل بسماء وطن من الأوطان، بلا تفرقةٍ في الانتماء واللون والعنصر والثقافة والاعتقاد.. كل من يحمل اسم مواطن يربطه ميثاقٌ شرفيٌ، وأقول أكثر.. بل دينيٌ، بأن عليه واجبات يجب أن يؤديها، وأن له حقوقا يجب أن ينالها كاملة بلا منـّةٍ ولا إبطاء..
تنقلب أمورٌ، وتعم الفوضى والغضبُ وعدم الرضا وقلة الانتماء عندما يكون من يحصل على كل الحقوق هم أقل من يؤدي الواجبات، ويحرم من الحقوق من يبذلون عرقهم وصحتهم وعمرهم من أجل أن يقوموا بكل الواجبات.
شكرا ليوم العدل الاجتماعي الدولي، ولكن عفوا لا نحتاج إلية ليعلمنا، ففي شرعِنا أعظم نظم عدلٍ عرفتها البشرية.. بشرط: أن نعيد الاطلاع.. ونطبق!