سنة النشر : 20/12/2008 الصحيفة : الاقتصادية
.. أحسنَ فرعُ هيئةِ حقوق الإنسان في المنطقة الشرقيةِ باستضافة الدكتور محمد عبده يماني للتحدث عن حقوق الإنسان في الإسلام. وكنت قد أدرتُ المناسبة بدعوةٍ مشكورةٍ من الدكتور الفاضل منصور القطري رئيس الفرع، والعامل الجاد من أجل تكريس عمل وأهداف الهيئة. ورغم أن الحضورَ وأنا كنا نتوقع من الدكتور يماني حديثاً ضافياً، وعلماً عميقاً، وإلقاءً خلاّباً.. إلا أنه تعدى توقعاتنا، فمع كل تلك الملَكاتِ، إلا أنه للحظات، وأنا أتابعه، لاحظت أنه أخذته الحماسة والاقتناع والدعوة إلى ما كان يقوله حتى فاضت مواهبُـهُ الخطابية، وارتفعت حجّتـُه البلاغية، وغرفَ من إناءٍ عميق ومليءٍ علما وعاطفة واستغراقا تأمليا.. حتى خـُيِّلَ إلي لبرهةٍ أن الدموعَ تتدافع في مقلتيه.. أو أنها في عَيـْنـَي..
وليس غريبا، فالرجل موسوعة تسير على قدمين (وأخيراً مع عصا، شفاه اللهُ، وأمدّ في عمره) واحترت في تقديمه للجمهور بأي صفةٍ، فاخترت معظم صفاته، قائلا: "أقدم لكم يا إخواني العالمَ الجيولوجي، والإداري الممارس، والمسؤول الرفيع، والاقتصادي المنظر، والفيلسوف، والكاتب والمؤلف، والباحث الإنساني، الدكتور محمد عبده يماني .. ولكن، وأنا أتأمل وجهَهُ المنيرَ المجلـّل بلحيته الخفيفةِ البيضاء، رأيتُ انفراجَ بسمةٍ روحانيةٍ مع تنهيدةٍ عميقةٍ من صدره، عندما أضفتُ: "ومحبّ سيدنا محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وآل بيت النبي .."، مشيرا بالصفة الأخيرة إلى كتابيه الشهيرين: "علموا أولادكم محبة النبي"، و"في حب آل البيت".
ولقد تفاعل الحضورُ مع ما قاله الدكتور، وتداخل متحدثون كبارٌ مثل الشيخ المعروف حسن الصفار، والشيخ عمر الدويش مدير عام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المنطقة الشرقية، بفصاحةٍ ورؤيةٍ أخاذة أعجبت الدكتور يماني .. ثم علق الدكتور عبد الرحمن المديريس مدير عام التعليم بالمنطقة الشرقية، مطمئنا الدكتور على حرص الوزارة وإدارته على إدخال مفهوم حقوق الإنسان وتنمية المعارف الطلابية بشكل عام، وذلك إجابة عن سؤال وردني للدكتور يماني من أصغر الحاضرين واسمه "يزيد" (صف خامس ابتدائي) .. يقول فيه: "لماذا لا تُضَمُّ مادة حقوق الإنسان لمناهجنا الدراسية؟"، وصفق له الحضورُ، وطـُرِبَ لسؤالِِه الضيفُ الكبير.. وأجابه إجابة شافية مع تشجيعه، والثناءِ عليه.
وفي رأيي، أن إيماننا العام كمسلمين هو أن الحقّ الإنساني من جوهر التوجيه الإسلامي، وتقوم أصولـُه على تكريم الإنسان ليتمكن من إطلاق قدراته الخلاّقةِ في الخلافةِ عن الله في الأرض .. عزيزاً، كريماً، حراً.. لهُ وعليه.
ولقد فـُتـِنَ ( أو لأقول "اقتنع" مخفـِّفاً حدّةِ وقع التعبير) بعضٌ من مفكرينا في العالم الإسلامي، وعندنا هنا، بموضوع حقوق الإنسان حسب التأصيلات الغربية ابتداءً من فلاسفة الإغريق حتى فلاسفة ودعاة التحررِ والانعتاقِ الإنسانيَّيْن، ومن روح نهضة الإعلان الديمقراطي في إنجلترا (الماجنا كارتا)، ومن مبادئ وشعارات قيام الثورة الفرنسية التي اتكأتْ بانطلاقها على دعواتٍِ وتنظيراتٍ فلاسفةٍ مثل جان جاك روسو وفولتير وغيرهما. فعم ظنٌّ بين هؤلاء المفكرين أن الفكرَ أو النهج الإسلامي، لم تكتمل مشاهدَ نضجه، ولم تتضح وتتبلور نصوصُه التفسيرية لمسألة حقوق الإنسان، وبالتالي لا بد من إضفاء الزي المنهجي والتطبيقي الغربي على النهج الإسلامي، أو تلبيسه نصوصه ودواعيه وتفسيراته، أو أن تقدم مسألة حقوق الإنسان في المجتمعاتِ الإسلاميةِ مستقلة ضمن دستورٍٍ مدني مستمدٍّ مباشرة من الدساتير الغربية.
لذا، نحن بحاجة شديدة وسريعة لعقول من المفكرين الإسلاميين والدارسين عموما، وتكون من العقولِ الفاحصة، والمتزنةِ المتصفةِ بالحياد العمَلي، والبحثِ العلمي، وأن تكون ناهلة من مشاربِ المعارف الإنسانية، وراسخة في العلم والمعرفة الشرعيين بنهجها العام، وفي روافدها وتشعباتها، ومتونها، وشروحها، وهوامشها، لتقريب الصورة البعيدة، وتفسير الدقائق من الكليات الواسعة، وربط النصوص بها مع التطبيقات الوضعية في أمور حقوق الإنسان، مقابلة أو تعارضا أو تكميلا أو تصحيحا. والأهم، العمل على إيجاد آليةٍ صحيحةٍ وقابلةٍ للتطبيق الآني لحق الفرد عموما وواجبه في الحياة العصرية .. فهماً وتطبيقاً، واستيعاباً، وقبولاً، وتبنياً، وتقنيناً.
وجدت هيئة حقوق الإنسان السعودية في المنطقة الشرقية من السعودية في احتفالها بيوم حقوق الإنسان العالمي أهمية طرح مسألة حقوق الإنسان في الإسلام، ورأت أن العقلية المناسبة، والقادرة على خوض بحر الموضوع بثباتٍ ورؤيةٍ واسعةٍ، وببصيرةٍ إرشاديةٍ هي عقلية الدكتور المعلم محمد عبده يماني .. وأثبت الرجلُ الكبير صحة وحسن الاختيار.
عندما قدمتُ الرجلَ الكبير للحضور جالساً، كما جرت العادةِ في الندوات، وتجنبا أن يقف على المنبر وهو يعاني بعض الصعوبة في مفاصله .. فاجأني، والحضور يقفز خفيفا، كمن استشـَفـَّهُ الوجدًُ، للمنبر رغم دعوتي والحضور له بالجلوس .. ولكن لم يدرك أحد منا أنه كان كقفزِ الحبيبِ الوَلِهِ المشتاق لما اشتاق إليه وتولـَّهَ من أجلهِِ.
وكانت ليلة تجلى بها قمران، العلمُ، والشوق.