سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
* "يسألُ المريضُ، بغصةٍ باكيةٍ، والدموعُ تتجمعُ في عينيه: لماذا نمرض؟!"
لا بأس أن نمرض، وأمضي قائلا إن المرض حاجة، أو أن لنا في المرض حاجة. الحاجة أن نتعلم مزيدا من أطراف هذه الحياة، حياة كلٍّ منا. إن أجسادنا لا تنير خباياها إلا الاكتشافات التي تحفـِّزُها المعاناة. ومن المعاناة، المرض، وآلامه.
نتعلم من المرض جمالات مذهلة، جمالات تأخذ العقل، وتترع القلبَ، وتنهض الشعور. نتعلم من المرض أن نرى أنفسنا من الداخل، نكتشف هذا الهيولى الذي يحمل كل وجودنا.
في الأيام الرتيبة نمشي وننسى أقدامنا التي نمشي بها، نتنفس الهواء وننسى رئاتنا التي تعمل بلا توقف لتفسر هذا الهواء حيويا لكل مسارب البدن، تبعث فيه الحيوية، وتشع فيه الطاقة. يعلمنا المرض كم هو ثمين كل عضوٍ في أبداننا.
يعلمنا المرض أن نتناهى في المحبة والحب، ونكتشف حاجتنا الطاغية لكي يحبنا أحد، فنعرف أن من يحبوننا هم من أغلى ما حولنا، وأن محبتهم من أنفس ما نملك. كم هو تسامٍ في السعادة، رغم الألم، أن نجد أن قلوبا تهرع من أجلنا، وتدعو لنا، وترتجف خوفا وقلقا علينا.. لأنه أشد من وجع المرض ألا تجد يدا حانية تضغط على يدك، ويدا ترتفع للسماء بدعوة حرى من أجلك.. لو كنت طبيبا لوصفت المحبةََ كأول ترياقِ لتدعيم النظام المناعي في الأجساد.
يعلمنا المرض انتفاءنا القصي في هذا العالم، وصغر شأننا، ورهافة كل وجودنا، لنترحل في طرق مضيئة نتحرى الإيمان في أقصاه. فالمرض، لذا، يصفي نفوسنا من عنفوان التمرد، وفجاجة المكابرة.. ويأخذ أيادينا إلى فسوحات الأنوار السماوية .. حيث الرحمة، والقدرة، والعفو... وكل شيء!
وهناك، في الفسوحات النورانية، تجد الانعتاق من أسْر الأرض، ومن شقاء الفضول، ومن العناد في مناطحة الجبال.. تهدأ، كما لم تهدأ أبدا.
يعلمنا المرض أن نلتفت لهذه المعجزة الربانية التي هي كياننا، وكيف أن ملايين العمليات تجري عند كل رمشة عين داخل هذا الكيان بعمل هندسي متناسق ومتتابع ومتساند لا يمكن للمعرفة البشرية أن تحصر كل دقائقها ولا تراكيبها.. عندما يرى المريض كيف أن الأطباء يتناوبون على الكشف والفحص والدراسة والتشاور في أكثر من مجال وتخصص من أجل جسد واحد وفي رؤوسهم عشرات السنين من الدراسات من أجل أن يعرفوا كيف يساندون هذا الكيان مع حربه مع الغزاة من الجراثيم والفيروسات.. يدرك المريض جلالة هذا الكيان الذي يحمله، ويتعالى إيمانه في معارج البصيرة للخضوع والصلاة لخالق الكيان والأكوان.. " نعرف أن خريطة الجينوم البشري لتحديد مادته الأولية أخذت أجيالا من العمل المضني من فرق من أكبر العقول في كل المجالات الحيوية".. إن المرض إذن رحلة لفتوحات معرفية، كشْفٌ لسجف صنعتها الصحة والالتهاء ومجاذب الطاقة والحيوية وشؤون الحياة.. محطة قد تكون غير مرغوبة، ومؤلمة ومحزنة، ولكن المعرفة الفيضية التي تمتلئ بها روح المريض لا يمكن أن تقدر بغالي الأثمان.
ثم يقود المرضُ عقلَ المريض إلى التأمل خارج كيانه، ويتطرق إلى المناطق الكبرى خارجه، إلى مجتمعه، وإلى وطنه. كما أن المرض هو تقاصر في أداء المناعة الجسدية، أو تعرض لمسببات ومحاذير الأمراض، فالنتيجة المعاناة من عواقبه. ففي المجتمع المحيط أمراض تتفشى كل يوم، وأمراض تهدد المجتمع في كل يوم في نواحيه الاجتماعية واليقينية والمعرفية والمالية.. وأن ضعف استعداد أعضاء المجتمع يزيد من استعداء عناصر الأمراض. كما أن الوطن مصاب بأمراض في السياسة وفي الثبات الوطني، وفي أساسيات تكوّنه وتكوينه بفعل كل هذه الرياح التي تنفتح لها النوافذ وصدر الوطن مكشوف له بلا واق ولا حاصن.. فإن سمعت أن العطسات تعالت والحرارة ارتفعت ووهن الوطن وصار كل من استقوى يُملي عليه وصايته كما يشاء، كما تقتحم الجراثيم الجسد واهن المناعة، فهذا إنما من أثر ضعف التوقي ضد الهبات الخارجية المحملة بالجراثيم من كل نوع، فتضعف السياسة، ويقل الرأي، وتتشوش الرؤية، ويزيد الصداع، وتضعف الحيلة، ونضرب بحثا عن الحلول المضللة التي تقود لمصير أسوأ. ولكن كما أن الوقاية للجسد أفضل من الدواء، فإن وقاية وتحصين الوطن لا بد منها، لا ليصد الرياح ولكن ليسخرها كالسفن العابرة في مصبات أشرعتها، وهو الدواء الناجع، والوقاية الواجبة.. إنه كما ترى سر الوجود، هذه الوحدانية في الأشياء، وهذا التناسق المُضَمـَّن في كل عناصر الكون.
.. رأيتُ عينـَيْ المريض تطرف في محفة السعادة، وأبناءه وإخوانه وأصدقاءه يقبلون رأسه.. فقفزت تنهيدة راحة من شفاهه المرتجفة، ثم تشهد، وابتسم..