مستشفى يرمي مواطنًا يحتضر.. في الشارع!

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

هل روعك عنوان المقال؟ أكيد. لقد روعني أنا أيضا. هل رفعتَ حاجبيك وفركت عينيك لتقرأ العنوان مرة أخرى؟ أكيد. أنا فعلت تماما. هل قلتَ إن كاتبَ المقال يخرف، أو يهرف بما لا يعرف، أو سمع إشاعة، أو همساً ينتقل بين الآذان في جلسة سمر يقول كل من يعن له خاطرة ولو حلق فيها عاليا، وبالغ في روايتها؟ ربما ساورك هذا الخاطرُ مرارا، ولا ألومك. من يصدق أن في بلادنا - أو حتى في أقل البلدان احتراما للبشر، لبشرهم على الأقل، يرمون مريضا في وسط الطريق ثم يذهبون عنه، وكأنهم تخلصوا من نفاية الأمس. والله لا يُصدَّق أبدا لولا أني قرأته بأم عيني، وليست أم عيني أنا فقط بل آلاف الأعين التي قرأت جريدة "اليوم" الأربعاء هذا الذي فات في 12 حزيران (يونيو).. نعم العنوان الذي قرأت ليس به حرفٌ واحدٌ مني، هذا العنوان منقول تماما كما نشرته "اليوم" وأين؟ في صدر صفحتها الأولى، وصحيح ليس هناك أي خبرٍ في كل الدنيا يعادل تلك اللقطة التي صورها مصور جريدة "اليوم"، هي للأسف العميق، إن كانت كما تبدو وليست فصلا من فلم تراجيدي مهترئ، فأني أرشح الصورة للفوز بصورة العام.. بلا منافس على الإطلاق. عجوزٌ يرمى في نهر الطريق في بلد الرحمة والإنسانية والتكافل، والبترول.. حتى الآن أقول إن خطأ ما قد حصل، ولكن لا أستطيع تجاهل أن جريدة سيارة بطاقم تحريري محترف لن يتأكد من مصدر الصورة، وحقيقتها، ويتأكدون بدل المرة ألفا.. أو أن هذا ما يجب أن يكون.

* الصورة: كما صورها مصور جريدة اليوم ستنشر حبيبات جلد الدجاج المنتف في كل جلدك، وستقف أول شعرة في أعلاك، وآخر شعرة في قدمك.. في نهر الشارع مرمي ومتكوم رجلٌ مريض عجوز يبدو أنه في غيبوبة أو إنهاك شديد، ويبدو مكشوف الساقين الهزيلين كعودَي ثقاب معاد الاستعمال، ولُف حوضـَهُ بحفاضةٍ أكبر من كل حوضه، بينما يدف رجلان عربة نقل المرضى بعيدا عن المريض بعد أن تخلصوا منه في قارعة الطريق.. لن تصدق، صحيح، لأنك تملك حواس عاقلة، لأنك تتمتع بخلايا المنطق في دماغك، ولأنك لا تملك أي وسيلة تجعل مقدمة مخك يتخيل لك شيئا يحدث، كما حدث، في أي مكان، أما في بلادنا بلاد الإسلام والأمن وكرامة المواطن وحقه الأوَّلي الذي لا يُمن به عليه، حق العلاج.. فهذا لن تعقله في أكثر أفكارك المتشائمة جنوحا، ولا في أقصى كوابيسك السوداء.. ولكن يبدو أنه حدث. وبما أملك من دلائل أمامي لا أظن إلا أنه حدث فعلا، وإلا لما ملأ الصفحة الأولى من جريدة محلية.. لا يمكن.

أنا أكتب المقال وأنا مذهول في ذات اليوم الأربعاء، وقد تحدث أشياء وأشياء بعد هذا اليوم إلى أن ينشر هذا المقال اليوم السبت ( إن خرج بوقته). لذا، هذا الذي أتصوره سيحدث:

* التصور الأول: لخلل أو غلطة ما، أو سوء فهم، أو سوء تفسير تبين لرئيس التحرير (اليوم) أن الصورة لا تعبر عن المشهد، وأن هناك سيناريو آخر يبر ذلك، فتنشر الجريدة اعتذارا على الصفحة الأولى في مكان نشر الصورة المريعة نفسها.. ويفسر كيف حدثت الغلطة التي خلعت قلوب من رآها، وهو اعتذار لكل القطاع الصحي، ولكل من تعذبت نفسه وهو يدقق في الصورة حتى ارتفع ضغطه، أو فار دمه، أو ثارت ضربات قلبه.. أو بكى. ولكني أقلل من احتمال هذا التصور لأن طاقما محترفا في جريدة رئيسية لن ينشر صورة بهذه الفظاعة دون ألف تدقيق، وألف دليل، حتى الإثارة الصحفية لها حدود، ولها أخلاقيات، ولن تكون نشر مثل هذه الصورة للإثارة لأنها ستكون قد تعدت أبعد حدود السماح والمتاح والمقبول.. وإن كانت حقيقية - كما أرى!- فهي قوة وشجاعة وجسارة واحترام لمبدأ خدمة الصحافة للمجتمع، ورفع الستار أمام أعين الحكومة لترى ما يجري من مخالفات.. هل قلت مخالفات؟ أعذرني يبدو أن لغتي اختلت، أو أن ارتجاج العقل والرؤية أثر على قدراتي اللغوية.. إنها أم الجرائم!

* التصور الثاني: وزير الصحة، يدخل عليه مستأذنا مدير العلاقات العامة في الوزارة ومعه جريدة اليوم طاويا الجريدة لكي تبرز الصورة، وهو لا ينتظر أن يرفع الوزير رأسَه من الورق الكثير، والمكالمات الهاتفية، والمواعيد، يدرك أن الخبر الذي يحمله لا يحتمل الانتظار، إنه الخبر الذي تعدى لون الخطر حتى التهب، ينشر الصورة أمام الوزير. الوزير يذهل، ويصمت، ويرفع رأسه لمدير العلاقات العامة غير مصدق ما يرى. الوزير يسند رأسه إلى الساند الأعلى من مقعده، وكأنه يريد أن يثبت عقله في رأسه، أو يثبت الدنيا التي تدور أمامه.. إن أكبر ما يمكن أن يحدث لوزير صحة من مشاهد الإخفاق في الرعاية الصحية أن يرى منظرا كهذا.. وهو يدرك ما معناه، لأنه يعرف أن ضميره يقرع بشدة ويجعل مسؤولية المريض الملقى في الطريق مسؤوليته مهما كان بعيدا عنها، هو فعلا كذلك. فجأة تنقلب الدنيا في وزارة الصحة.. ويحقق في الموضوع بأقصى سرعة وليس عن طريق الإحالات واللجان.. يريد الوزير في يوم واحد أن يعرف من المذنب، مدى صحة الخبر.. وسيتأكد قطعا من الخبر، وإن كان صحيحاً.. فلن ينقذ المستشفى من مسحه من الوجود أي قوة بشرية.. لأن ما قام به المستشفى لا يقوم به إلا الشيطان نفسه!

* التصور الثالث: تسبق كل ذاك، بعض الجرائد الدولية، والقنوات الفضائية ( وما أكثرها تلك التي تحلم بمثل هذه الصورة) فيـُقضى على كل ما تعمله حكومة البلاد من أجل رعاياها.. لا نريد ذلك أبدا.. ولكن الصورة صارت ملك العالم الآن.

هل هناك خير في الشر. ربما. إن كان هناك خير واحد في الصورة فهي أنها توقظنا على واقعنا الصحي الأهلي والعام.. إيقاظ أفضل منه أسود الكوابيس!