سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
.. الشيزوفرانيا، مرضٌ شاع أن نسميه بانفصام الشخصية، والحقيقة أنه لا يعني أن يعيش المريض عدة حيوات في آن، أو انقسام الشخصية لعدة شخصيات، ولكنه مرض يعني اختلالا في المدركات العقلية تجعل الواقع وهما، أو الوهم واقعا، وبينهما منطقة رمادية حالكة من الرؤى المختلطة، والسوداوية، والكآبة، والانعزال والميل للعنف، وسوء تفسير النوايا بصورة قطعية، وأسوأ ما فيه أن المريض به تنمو لديه ميول انتحارية جدية.
وقد سُجـِّل مرضُ الشيزوفرانيا في عياداتنا النفسية، وبما أن من أسبابه الضغوط النفسية القاهرة، خصوصا بعد الأزمات المالية التي عصفت بجموع كاسحة من السعوديين.. فرأيت مناسبا أن أنقل لكم، مترجـِماً وبتصرف، مقالا حررته فتاة مصابة بالشيزوفرانيا، ووجدت أنه أكثر ما يوضح سمات هذا المرض. والكاتبة هي "فيليبا كينج"، فتاة تعاني من مرض مركب من الشيزوفرانيا، ووصفت حالتها وهي في عين إعصار المرض، وما زالت. والمقالة مؤثرة جدا من ناحية عاطفية، ومفيدة بشكل خاص من حيث المعرفة الكاشفة والواقعية لهذا المرض.. وقوة أثر المقال تبدأ من عنوانه الشاد: "عقل يأسره الألم A mind taut with pain".
وقد قدمت جريدة "التايمز" اللندنية للمقال قائلة: "كاتبتنا أصيبت بالمرض وهي في السابعة, ولقد عانت في الثمانية عشرة سنة الماضية سلسلة من العلل العقلية بسبب المرض. بالكلمات والرسم صاغت رؤى فريدة ومؤججة للعواطف حول آلامها".
أنقل لكم بعضا من أهم مقاطعه:
"اكتشفتُ هذا العام مرتعبة، أنني أنا شخصيا المسؤولة عن فيضان نهر الدانوب، لقد ظهرت الأخبار أمامي على الشاشة، وأمام العالم.. مشهدٌ من قصتي مع مرضي.
أصبت بالمرض القاسي منذ مدة طويلة حين كنت في السابعة ابتداء بميول انتحارية فرضتها علي كآبة خانقة.. لما شُخِّص مرضي، علم الجيرانُ، ومع عوارضه الانسحابية وتصرفاتي التي اتسمت بغرابة شاذة، اعتقدوا أني ضربت حلفا مع الشيطان. فقد كنت أصدر مواء مريرا مثل القطط، فقد صور لي عقلي أني قطة، وأن الناس يحبون القطط. وكنت لا أنام أياما متواصلة ثم أقع نائمة مثل كتلة جامدة. فاختلطتْ بإخفاق مفزع كل حواسي الواعية.
كلما كبرت كان شعورٌ يلفني بخوف لا يوصف بأني ارتكبت جرما شنيعا وأن العالم يطاردني، وأن لا مكان يمكن أن ألوذ إليه. ومرة شربت كميات من الماء حتى كدت أفقد الوعي بيقين أن الماءَ سيصفي أفكاري لأن الماء صاف. وأحيانا أوقف نفـَسي لأنني أعتقد أن نفـَسي هو الريح التي تحرك أغصان الأشجار. كنت في دوامة من الألوان والأشكال والمشاهد ولا أدري أين أنتهي أنا، وأين يبدأ العالم.
تعرضت لمصائب لا حصر لها، تغير في الوزن، ولعاب لا يقف من السيلان، وسقوط الشعر، وضياع الذاكرة، ورعشات في أطرافي كظواهر مصاحبة للمرض.. والقائمة لا تنتهي.
لقد عولجت بكوكتيل من الأدوية منها أولانزبين، ورسبيريدون، وكلوزابين، وهيلوبريدول، ووالليثيوم، والبروزاك.. وحفلة أخرى من العقاقير لا حصر لها. وبالطبع تعرضت لأعراض هذه الأدوية العنيفة، وبعضها سيبقى معي طيلة حياتي. أصابتني رعشات وتيبس الأطراف فصرت مثل المصابين بمرض باركنسون (الرعاش)، وبالميل للاستفراغ من كل ما في معدتي لأسابيع متواصلة. التبس في أطرافي عنى أنه لا يمكنني الكتابة بالقلم، ولا حتى ربط شريط حذائي. وعقار الكلوزابين قاد إلى تساقط عدد الكريات البيضاء في دمي إلى معدلات الهاوية، وعقار الألونزابين سبب لي سمنة مفرطة.. ولكن ما العمل؟ إن توقفت عن الأدوية فقدت بشكل نهائي اتزاني العقلي.
ما هو مرضي، الشيزوفرانيا؟ إنه يأخذ شكل آمال المريض وخوفه ثم يخلطهم عشوائيا بشكل مضحك ومضطرب. إنه شعور بعد أن يأخذ شكله الخزفي المشوش يقنعني قطعيا بأن عائلتي وأصدقائي هم ألد أعدائي، مهما حاول أحد أن يقنعني بالنقيض. فأنا لا أخرج من منزل والدَي لأن هناك قناصة يترصدون لي كي يطلقوا علي الرصاص ويعدمني، وهناك أحيانا عملاء وجواسيس الحكومة الذين يخططون لاختطافي كي أرمى في معامل التجارب السرية. وإني مراقبة ليل نهار بالأقمار الصناعية وبالطائرات الرادارية.. ناهيك أن أصدقائي لا يستقرون، وإني عديمة التركيز.. والأفظع وأنا في بيتي، أعدائي يشاركونني البيت: عائلتي!
أحيانا أغرق في رسم لوحة، وأحيانا أقف محملقة لساعات إلى كرسي. وأحيانا لا أعمل شيئا سوى السير بهمة لا تخور على محيط دائرة.
تسألني كيف أرى مستقبلي؟.. الجواب: أنا لا أراه! "
أكتفي بنقل هذه المقاطع المؤثرة من مقالة شابة مريضة بالشيزوفرانيا، وهو مرض شاع في مجتمعنا الآن لعدة مسببات، وحان الوقت لتكون هناك حملة عامة للتوعية حول المرض، وحول المصابين بهذا المرض، فما زلنا لا نفهم المرض النفسي، ونعالجه سطحيا، أو نفسره بالتصرفات المستهجنة، أو ننقل المريض لمشعوذ من المشعوذين ليطير ما بقي من عقله..
وعندما أقرأ عن زيادة معدل الانتحار في الصحف، أشك دائما في ذلك المرض الرابض بيننا، والجاهز للانقضاض: مرضٌ عقلي يقلب المزاج الإنساني إلى أعماق القلق، وتبادل التهيؤات الشخصية، والميول الانتحارية، والعنف، والانسحاب، مرض يصل إلى جزء الدماغ الذي يتحكم في عواطفنا وحواسنا فيمنعها من الإدراك السليم.. عدوٌ اسمه: الشيزوفرانيا.