لا تفرحوا.. ستخضرُّ صحارينا!

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

.. التقرير ضخمٌ جدا، كـُتبت مادته في سفرٍ من أكثر من 1500 صفحة، وهو تقريرٌ مريع، خرج بعد أيام من الاجتماعات في بروكسل في سجالٍ شارك فيه أكثر من مائتي عالم في الأرصاد والبيئة وشتى العلوم.. والنتيجة: هذا الكوكب في خطر!

تعدى الخطرُ الخطوط َالتحذيرية الخضراء، ووطأ بخطواتٍ ثابتةٍ ومستمرةٍ في المنطقة الخطرة الحمراء. لم يعد العلماءُ يتنبأون بماذا سيحدث، ولكن للأسف العميق على مستوى الأرض بمن وما فيها، صاروا يسجلون وينقلون الوقائع. الموضوع جديٌّ جدا، ولأنهم يريدون أن يبلغوه كل زعيم على الأرض، لأنها مهمة عالمية بمصير واحد، فقد لخصوا أهم نتائج البحوث في عشرين صفحة ليقرأها صناع القرار في العالم.. والموضوع: التغير المناخي بفعل مؤثرات النشاط الإنساني الصناعي صار حقيقة.

العالم بدأ مرحلة الدمار الذاتي.. وبدأت الساعة تدق. وهنا التحذير الذي يقلع قلوب من يفهمون التحور البيئي المناخي العظيم. الأرض قنبلة موقوته.. وما أمامنا إلا حلاّن: إما نطيل مدة ما قبل الإنفجار، أو نزيل سلك التوصيل حتى لا تنفجر القنبلة. حتى الآن ليس هناك مؤشرٌ على عزمنا على أي منهما، بل النفخ في الشرارة إلى مفجر القنبلة مازال يزداد كل يوم.

إن العلماءَ يقولون إنه التحذير الأخير، ويخافون أن اجتماعهم المقبل ضمن الهيئة العالمية للتغير المناخي المشكل من الأمم المتحدة : لن يغدو تحذيرا، بل تسجيلا للخسائر المهولة التي سببتها الكوارث الطبيعية.

لم يـُؤخذ الأمرُ جادا من صحفنا كما تابعت، بينما تصدر خبر "التقرير - المصير" صدرَ صحف الدول المتقدمة، وأُفردت له ملاحق البحث والتقصي والمتابعة.. ولك أن تستدل بالصفحة الأولى ليوم السبت الفائت في صحيفة النيويورك تايمز.. كان خبر الأخبار في صدر الجريدة.

الموضوع صار شأنا عالميا، يخص كل منا، لأننا نعيش على الأرض ذاتها، ونتنفس الهواء ذاته.. أعظم وأقوى وأصدق ما يربط كل الشعوب على الأرض، قارب واحد لحمته وسداه الهواء والماء والتراب.. أسطورة الإغريق القديمة تحلُّ سيفاً كونياُ سيزيفياً على عنق الكوكب.

نفـَّذَ مناخُ الأرض تهديدَهُ ابتداء من العام الماضي لما سُجلت أكبر تغييرات في المناخ الدوري للأرض، فسقطت صفائح جليدية وسط المحيط في القطبين بعضها بحجم ربع بلادنا، ولما أمطرت في الصحراء الصينية التي لم تر الماء من عقود، ولما اختفى الجليد من قمة "كليمنجارو" الجبل الإفريقي الشامخ على الضفة الشرقية الجنوبية للقارة، ولما ذابت العمامة الثلجية من فوق جبل الشيخ في الشام.. ولما زدات مدة الشتاء عندنا، وسيأتي يوم قريب يتناثر الفقع تحت أقدامنا أكثرمن البترول لأن الأمطار الموسمية ستزداد مددها ويثقل سحابها، وكأن المطر انتقل من مكانه المعروف في الاستواء إلى مكان لا يعرفه إلا نادرا في المدار. وسيطول الربيع وستزدهر أسواق الخيام، وتخضر صحارينا، ولكن لا تفرحوا، فالخبرُ ليس طيبا.. إنها علامات هذا الصندوق الغازي الذي يغلف الكرة الأرضية فاختلت حرارته وصار يطبخنا في الداخل!

وسيكون المشهد أكثر رعبا وموتا جماعيا خصوصا في الدول الفقيرة، والمتأخرة، والأقل استعدادا بالأجهزة والخبرة والوعي والبنية التحتية، إن ارتفاعا متوقعا في هذا العقد لدرجتين أو ثلاث كفيل بإغضاب المحيطات، وإخراجها عن طورها لترتفع نسب مياهها من الإنحيازات الثلجية الماردة من القطبين لتبتلع أمواجها جزرا بالكامل عليها ملايين من الأنفس، وستغرق مدن برمتّها، تلك التي على جرف القارات بجانب السواحل، فحين ستصمد لندن أو نيويورك شهورا، قد تغرق دكا، وكلكتا، ومدن على الساحل الأطلنطي من المغرب حتى السنغال.. في ساعات.

 

من الملام؟ الإنسان. هذا ما قاله التقرير. أكثر من 98 في المائة من الانبعاثات الغازية الخانقة والجارحة لقشرة الأوزون والتي هي درع الأرض ضد الأشعة الكونية الضارة هي بفعل الإنسان. الحضارة الصناعية أثبتت أنها سكين بطرفين.. والآن جاء دور النصل القاطع. ولكن على الصعيد الدولي، تسهم الدول الفقيرة بصناعاتها الرديئة ذات الانبعاثات غير المدورة ولا المصفاة في قسط كبير، وجاءت الصين بتحد أعظم لإغراق العالم مرتين: ببضائعها التي تملأ كل ركن فى المعمورة، ولتسببها الكبير كل يوم وكل ساعة في نفث النار في قلب المحيط ليرسل أمواجه المدمرة تأكل السواحل وما فوقها.. هذا ما يقول التقرير.

والوعي والحذر والهيئات غير الرسمية نشطة جدا في الغرب، وكنا- وما زلنا- غاضبين على أمريكا لأنها لم توقع بروتوكول "كيوتو" بوقاحةٍ سافرة، إلا أن التقريرَ المحايد يقول إن أكثر الدول تقدما في خفض الإنبعاثات الضارة تقنيا، وسنـّاً للقوانين الحامية من التلوث هي.. أمريكا! إنه ليس بسبب بوش أو حماقة الإدارة، ولكن لنضوج كبير ومتقدم في الوعي العام، وفي الضمير الكوني الحي.

يبقى أن لدينا هيئة رسمية تُعنى بالأرض والبيئة، وجاء دورُها لتخبرنا ما يجري في الأرض، وما يجري هنا، وما تقوم به إزاء ذلك. وأن تكون عملية وجادة وواعية لتقودنا كي نصون هواءَنا وماءَنا وترابـَنا.. قبل أن ننصب خيامنا الربيع المقبل!