عبثـُنا بالأرضِ والسماء

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

.. البيئة مرة أخرى.

كانت بالفلبين في كانون الثاني (يناير) 2004م، تضربها الأعاصير، وتنهار أراضيها الطينية، وتتهاوى سهولها الجبلية، وتجرف السيولُ قرى كاملة، منها ضاحية ساحلية انكبت عليها السيول فغمرتها وأتت على الضاحية بكاملها، فقد كانت مكشوفة أمام غزو السيول حيث إن التحطيب السافر كان قد اقتلع غابات كانت تحيط بها، والصحف كلها في عناوينها الأولى تصور حجم الكوارث البشرية وفداحة الخسائر المادية، وتروي قصصا عن الموت، والتضحية، والضياع، والمرض، والتشرد، وخراب الديار.. ونشعر ونحن في العاصمة مانيلا التي تحكمت بها حواشي الأعاصير (حيث إنها تركزت في منطقة لوزون شمال شرقي الأرخبيل الفلبيني) أن المدينة فقدت رتمها، وفي ليلة الإعصار كادت أن تشل جهازها العصبي تقريبا. لقد كان الإعصارُ عنيفا منتقما ، وحصد في أرجاء "لوزون" الأرواح والممتلكات وأبرَزَ هوان الإنسان على الإنسان، وسطوة الجشع على توازنات الحياة، وعلى الفساد الذي يضرب نخاع الدول التي عبث أهلـُها مع عناصر الطبيعة، فتساهل مسئولوها، ولعبوا الدورين، دورٌ في العلن في المطالبة بوقف عمليات التحطيب وطغيان حفر المناجم وسرقة الغابات، ودورٌ في السر لتمرير عمليات نهب الطبيعة والتعدي على حدودها الحيوية، وهي عمليات في منتهى الضخامة، أساطيل من التراكتورات، وفيالق من الشاحنات العملاقة تحمل الحطبَ عبر الطرق بمشاهد تسد عين الشمس ولا يوقفها أحد.. لأن المنتفعينَ هم من يضعون القوانين. لذا حق لي أن أقول إنه غضب وانتقام الطبيعة..

وسبحان الله، فإن الناس لا يتعلمون، أو أنهم لا يريدون أن يتعلموا، أو أنهم قصيرو الذاكرة جدا، فالفلبين على سبيل المثال - لأن هذا حاصل في كل البلدان التي تتعرض لثورات عناصر الطبيعة في آسيا وأمريكا الجنوبية وإفريقيا - كم تحتاج من كوارثٍ ومآسٍ كي توقف عمليات التعدي على عناصرها الطبيعية، حيث التحطيب الجائر، والتنجيم، ونزعٌ مُريعٌ للغابات (وكان إحصاءٌ مريع ظهر في إعلان في صفحة كاملة في صحيفة "الفلبين ستار" يقول إن الغطاءَ الطبيعي للغابات في الفلبين تقاصر من 70 في المائة في بدايات القرن العشرين إلى مجرد نسبة تقارب 6 في المائة في عام 1998، وأنتم تقرأون الآن لا بد أن ذلك الرقم الضئيل تناقص مع المدة، يا للفظاعة!) كل مرة نزور فيها هذه البلاد نرى الدنيا قائمة لا تقعد من هول كوارثها، والآن حيث تعتو الأعاصير والانهيارات الأرضية واندفاع السيول ليكشط قرى بالكامل من مواقعها في مناطق كوزون وبولاكان.. ويصرخ أحد كتابهم ويقول: "إلى متى ونحن مثل آكلي اللوتس في الأسطورة لا نصحو من النوم، ولا نعتبر، ولا نتذكر، ولا نحتاط ولا نقاوم؟.. كل مشاكلنا منا وبسببنا". وقد تتعجب معي أيها القارئ الكريم كيف تـُبنى قرى بالكامل على مجاري الأنهار ومن مواد أولية بدائية معرضة لضربات الطبيعة عندما تثور، وهي تتكرر دائما، ويحق لنا العجب، ولكني أرى أن الفقرَ والحاجة وضعف الإنماء الحضري، والإهمال الرسمي وراء ذلك..

خلق اللهُ العالم متوازنا في دورته الحيوية الكاملة، وسمح للإنسان أن يعمره، وسمح لنفسه أن يساهم في تدميرها، وعندما أخلّ البشرُ بالتوازن البيئي، وطغى على حدود المسموح في استخدام موارد الطبيعة بدوافع الطمع والأنانية والنظرة القصيرة القاصرة، كان لا بد أن يكون الثمن باهظا، إنه ثمن انتقام الطبيعة!

وقلنا إن الفلبين صورة شاهقة لعناصر الطبيعة عندما تغضب وتضرب، فقد كانت الغابات تحد من سطوة السيول والأعاصير وتحمي حواف الأرض، ولكن الإسراف في التحطيب، وعظم المساحات التي سُلخت من الغابات جعلت الأرض سهلة بلا مقاومة ولا تحصينات لكي تتلاطم السيول باندفاع مزمجر ليغرق ويدمر، والأعاصير لكي تقتلع الحياة من الحواضر والقرى والأرياف. وهذا يتكرر كل عام في مناطق في العالم من بنغلادش إلى دول في أمريكا الجنوبية ودول في إفريقيا.. إنها ضريبة مستحقة لما نالته يدُ الإنسان الجشعة من العناصر الطبيعية ولما سرقت من مواردها أكثر مما تسمح به توازناتها.. لذا – كل مرة- سيكون في مواسم السيول والأعاصير الثمن فادحا.. جدا!

هل نحن بعيدون عن كل ذلك؟ لا، مرتان. "اللا" الأولى، لأننا بشر نقطن في بيت واحد هو الأرض، والأذى يتواصل بحلقة متصلة فينال منا بشكل مباشر أو غير مباشر فيضرنا جميعا، و"اللا" الثانية لأننا مقبلون على تنمياتٍ صناعيةٍ كبرى، ولأننا ننهل من مخزونات الطبيعة من نفط ومياه، ونتعدى على السواحل، ونلطخ مياه بحرينا الضيّقين. وأن نعي جيدا حتى لا نسرف في النهل ليتعداه إلى النزح، ولا الاستخدام إلى الاستنزاف، وأن ننظر إلى السماء فلا نلوثها بهباب المصانع، وترابنا وبحرنا فلا نلطخه بمخلفات التصنيع التي بعضها لا ينظف في قرون.

ما رأيت من موت وخراب ومآسٍ وكوارث، حاضرا أو مشاهدا، في هذا العالم كافٍ أن يُوقظ الضميرَ البيئي بنا.. إن كان ما زال نابضاً!