شعورُ المتبرِّع؟ اسألني أنا!

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

.. مريضُ الكلى، هو المريض الذي أضربت كليتاه عن العمل نهائيا، وهنا يصير المريض عرضة لأن تتجول السموم في جسمه، وتتزايد، وتنهش اللحم، وتأكل العظم، وتهجم بضراوة على كل عضوٍ حيوي في جسمه، من الدماغ، إلى القلب إلى الكبد.. وتمتص منه رحيقَ الحياة حتى يذوقها علقما (حرفيا فالتأثيرات الكيميائية والخمائر الحائرة تلسع لسانه بأمر ما يكون من ضرار الطعم) .. ولذا لا يكون حيا كالأحياء، ولا هو انتقل إلى عالم الأموات، ولكنه برزخ من الآلام، والفراغ بلا قاع، وانهيار كل مولدات الطاقة، والخواء يدور كالهواء في نخاع العظم.. برزخٌ بين عالمَيْ الحياة والموت.. بل قنطرةٌ يُسحب من فوقها المريض بطيئا مريرا إلى الموت. إلا..

إلا.. إذا كان المريضُ قريبا عند مستشفى تتوافر فيه تجهيزات غسيل السموم من الجسم عن طريق الدم، أو الحاجب البريتوني. ولكن هل المريض عبر البرزخ إلى حدائق الحياة؟ هل اخضرت صحاريه، وتدفقت مياه العافية في سواقي الحياة في بدنه؟ هل صار من جديد نفسا حرة، وطيرا يحلق مع السرب في عين السماء الزرقاء؟ هل عبر القنطرة ماشيا مستقيما باش الصحة، وافر العضل والطاقة عائدا إلى رحاب الحياة ورحيقها السائغ؟ أسئلة يكفي أنك ستعرف الإجابة عنها، لما ترى كيف تنغرس الإبرُ الطويلة في أنفاق الأوردة والشرايين، وكيف ينام المريضُ ساعات محبوسا إلى آلة تخرج الدمَ خارج مغاليق جسده ليدور خارجه ضمن مصافٍ وأنابيب من البلاستيك معرّضا لما يتعرض له الجرح النازف، إلا أن بالغت في التعقيم والعزل والتجديد.. ومع ذلك لاضمان. كم مريض عبر البلاد انتقلت إليه الأوبئة الكبدية، وبالذات أشرها وألدها ضد أي علاج كالتهاب الكبد ج Hepatitis c.. الالتهاب الذي لم يكتشف إلا من قريب لينضم إلى أخويه الالتهابين المعروفين من أزمان( أ) و(ب)..

وشعور المريض غامضٌ للأصحاء، ومن المستحيل أن ينقل المريضُ للآخرين تعبيرا بالكلام، وبطنه يشق لسحب السوائل وسكب السوائل عبر الغشاء البريتوني وقوارير المحاليل تنسكب في جسمه وكأنه يُسقى سائلُ الحياة، ويُسحب منه سائل الفناء.. هل يعد المريض هنا أنه صحيح ومتعافٍ؟ لا بالتأكيد، إنه مسلوب من حرية الحياة ومستعبد لأجهزة تصله بالحياة، وهي أجهزة تندر كل يوم، مع زيادة عدد المرضى، وكل جلسة غسيل تكلف ثروة صغيرة فقط ليتحامل المريض مع مقومات الحياة ليومين أو ثلاثة أو أسبوع.. إنه مثل العذاب الإغريقي الأبدي، "سيزيف" الذي حكمت عليه آلهة الأولمب بحمل الصخرة الثقيلة كل يوم إلى قمة الجبل من قاع السفح، ثم لما يصل تتدحرج من جديد إلى القاع السحيق ويعود لحملها مجددا في رحلة مرهقةٍ أبدية.. إنها ملاحقة الحياة بوجع العظام، وتراكم السوائل، وحمية شديدة ومضنية عما يؤكل ويشرب إلا بمقدار لا يُشبع ولا يُروي.. جوعٌ مقيم، عطش دائم، ملاحقة مؤلمة كل يوم مع أجهزة تمده بشيء من الحياة.. لأن لا جهاز في الكون يعادل هذا العضو الصغير الذي هو من بديع خلق الله.. لا بديل.. إلا مثلها.

وهنا أقول لك شيئا آخر.. إنه شعور المتبرع.

عندما ترى أخوك أو أختك أو ابنك أو ابنتك أو من عصبتك القريبة، وهو أمامك بمأساته وتحامله على الحياة وضياع موارد حياته، وقتامة مستقبله، وصعوبة اجتيازه لكل ساعة بلا ألم ولا وجع.. كيف يكون شعورك وأنت قريب إليه بقلبك؟ ويخفق ألمه بين ضلوعك؟ وتسهر الليلَ تفكر فيه؟ وتنشغل بمعاناته.. وعندما يكون قريبك وحبيبك ومن خليط لحمك ودمك يعاني مرضا عضالا فأنت تتهاوى معه لأن لا علاج، لا سبيل يبقى، إنها رحمة سماوية بعد أن نفضت الأرض يدها عنه.. ولا تجد إلا الصلاة والدموع حتى يقضي الله أمرا كان مقضيا..

ولكن بمرض الكلى.. هناك أملٌ كبيرٌ، للحبور والرضى، ورياض الأجر العميم. تستطيع أن تنقذ من تحب بعون الله لما تتبرع له بكلية، والمتبرع لا يضار أبدا، فمن معجزة الكلية أن ثلث كلية واحدة وصحيحة كافية لأن يقود الإنسانُ حياة طبيعية تماما. والشعور الذي يغمر المتبرعَ بعد أن يمد حبيبه بالكلية شعورٌ لا يوصف من السعادة، وانشراح القلب، ورضى من أقصى دخائل النفس، وتقارب غريب بين الشخصين فوق تقاربهما السابق وتلاحم أعجب.. ثبت في دراسات نفسية وصحية أن المتبرع تتحسن أحواله العاطفية النفسية ورضاه بعد تبرعه، وسُجلت حالاتُ تطورٍ صحي أيضا.. وكل هذا لا يساوي لحظة الهناء الغامر لما تلتق عيونُ الشخصين، فيرى المتبرِّعُ بريقَ الحياة في عين حبيبه بعد أن انطفأ الوميضُ فيها لزمن، وأنه بفضل الله كان له الدورُ المهم في هذا النور، وعين المتبرَّع له وهو يرى عين حبيبه دفقا وعينا نابعة بحب خالص مخلص لا تشوبه شائبة، ولا يمكن لإنسانٍ حيٍّ أن يقيس مدى وعمق محبة آخر له كما هي حال المتبرَّع له.. لذا فهما لا يعودان صحيحان فقط، ولا يسري رحيق الحياة وحسب.. ولكنه حب، وتقارب، وتجاور أرواح، لا حد لطعم حلاوته، ولطف مذاقه.. عندما تختلط الحياة بالحياة والقلب يتحد مع القلب..

أنا جاهل في كثير من الأمور.. إلا في هذا، فأنا أضع نفسي من العارفين الحقيقيين.. فاسألني عنه..

.. لأن أمي تبرعت لي!