سليم 2

سنة النشر : 07/07/2014 الصحيفة : الاقتصادية

 

.. عائلة "أيالا زوبيل" من أكبر الأسر الثرية بالفلبين من أصولٍ إسبانية ألمانية مشتركة. في منتصف القرن التاسع عشر كان "أنتونيو أيالا" رجلا يملك أصولا شاسعة في أندلوسيا بإسبانيا، وهو من أصل باسكي من الجبال الشمالية في البلاد الإسبانية. وصل "أنتونيو" لمانيلا في العقد السادس من القرن الثامن عشر لمانيلا. وقتها كانت الفلبين تحت السيطرة الإسبانية منذ مائتي سنة تقريبا، واللغة الإسبانية هي اللغة الأولى خصوصا بين المتعلمين الفلبينيين آنذاك، واعتنق كامل الشعب- ما عدا جزيرة "المنديناو" المسلمة - الديانة المسيحية الكاثوليكية، وتحولت أسماؤهم لأسماء إسبانية، وهذا جارٍ ليومنا هذا. "أنتونيو أيالا" شارك "جوهانسن زوبيل" الألماني الدنماركي الذي أسس في العام 1840 أول مصانع كيميائية وسلسلة صيدليات في الفلبين بعد أن ترك بلاده. بعد تزاوج الأسرتين صاروا يسمَّون بعائلة واحدة هي "زوبيل دي أيالا".

في العام 1920 وصل أحمد الطرابلسي للفلبين وكانت نيته عند شقيقه في سدني، إلا أنه استعذب المقام بمانيلا، واشتهر باسم "أمادو" وقام ببيع الأقمشة ثم تطور عمله لمصنع أقمشة، ولما أتى ولده سليم من جامعة أكسفورد الذي ولد من أم فرنسية في العام 1936، قاد العمل للعالمية.

"ريتا دي ماريو كوستا أيالا" - الاسم مستعار- من أجمل فتيات الأعمال في ضاحية "مكاتي" الكبرى التي تكاد عائلتها تملكها كدويلة صغيرة بعمرانها وأسواقها وأسماء شوارعها وإدارة المرافق الرسمية بها.. وتدير أعمال الأسرة الاجتماعية وبالذات الدينية، فهي بنَتْ وأشرفتْ على أكثر من ألف كنيسة وتشابل وكتدرائية وتقيم حفلات تبرع فخمة مخملية. في إحدى الحفلات بفندق باذخ يشرف على طريق "أيالا" الواسع، وقفت "ريتا" تخطب في المجتمعين لتشجيعهم على التقدم بتبرعاتهم السخية، وكان سليم موجوداً، ومن أول نظرة وقع في حب الفتاة الأندلسية الشقراء التي ترتدي الرموز الكاثوليكية بشكل صارخ. حاول سليم، ووقتها كان شاباً فارعاً وسيما مزهر البشرة ويمشط شعره الأسود اللامع كما هي موضة الستينيات للخلف، واشتهر بصفة "الفتى اللعوب" وتتبعه الفتيات أينما احتفل أو ظهر. إلا أن الفتاة التي تجري بها دماء الإسبان والألمان وهالاتها الأنثوية الناعمة الأخاذة جعلته لا يرى إلا هي، ويريدها هي. رضخت في النهاية "ريتا" لإلحاح متابعة سليم خصوصا أنه كان عذب الحديث ويرسل لها قصائد شعر بالإنجليزية، ولكنها قالت له:"لن يجمعنا إلا رباط الزواج".

هنا ارتكب سليم خطيئته الكبرى. ادعى أنه كاثوليكي مثلها، ولم يكن بحاجةٍ إلى الادعاء فهي لم تكن تعتقد أنه من الممكن أن يكون مسلماً.. لذا جاء الزواجُ الكنسي في أكبر وأعرق كاتدرائية بمانيلا ليكرس صورة سليم الكاثوليكية.

بعد سنوات، وشى أحد منافسي سليم لريتا بأنه مسلم.. لم تقل "ريتا" لسليم أي كلمة، كل ما هنالك أنها التقطت أشياءها الخفيفة في حقيبة، وأخذت ابنها الرضيع "مانويل" معها. آخر أثر عُثر عليه بعد رحيلها أنها وطفلها ركبا طائرة داخلية لجزيرة "إيلو إيلو"، ثم أخذت عبّارة بحرية لجزيرةٍ أخرى، وفُقد أثرها رغم كل محاولات الشرطة ومحاولاته لسنين ومحاولات أهلها. اختفت ريتا للأبد، لم يقل لي سليم لماذا هذا التصرف المتطرف جدا؟ ولكني أعتقد أنها طبقت ما يعتقده المتنطّعون الكاثوليكيون بأنها ارتكبت شيئا أكبر من الخطيئة بمعاشرة مسلم، وأنها لن تطهر إلا ببذل نفسها للرب. هل ماتت؟ هل اختفت في ديرٍ جبلي وغطوا عليها؟ هل بكوخ ناءٍ؟هل غيرت هويتها؟ لا أحد يعلم.

لذا يأتي سليم كل ليلة في هذه الساحة بعد تقاعده، ويعاقر الخمر، والسيجار الفخم الغليظ معلق بشفاهٍ أغلظ.. وينهي كلامه يبكي بين كل فترة يرتاح فيها من الذكريات العميقة من أنفاق الأحزان:

"يا الله، أريد أن أتوب.. أريد أن أتوب".