فقط سؤال واحد: كيف؟

سنة النشر : 20/08/2011 الصحيفة : الاقتصادية

 

.. تحمّل السيد سلمان الجشي، رجل الأعمال المعروف، والكاتب بهذه الجريدة، مهمة التصدي لتوضيح صفة رجل الأعمال، وردّ ما علقت بهذه الصفة من شوائب وعيوب وممارساتٍ أنانيةٍ شاعت، حتى صار كل ما يضرب المواطنُ في جيبه وكأنه يأتي فقط من رجال الأعمال، وبين الأخ سلمان أن "رجل الأعمال" - ويشمل سيدة الأعمال طبعا- في النهاية مواطن، يسعى أيضاً لما فيه مصلحة وطنه، ومنافع ناسه.. و"الجشي" أعرف أنه من العاملين الاجتماعيين الحقيقيين.

ولا أعارض السيد الجشي، ولكن الأعمال التجارية مثل أي صناعةٍ أخرى، بها ناس يحملون الضميرَ الأخلاقي في تكوينهم المبدئي والخُلـُقي فينعكس على أعمالهم وتجارتهم مع الناس، يؤمنون أن التجارة ما جُعِلـَتْ صنعة الأنبياء إلا لقداسةٍ يجب أن تشملها، والعبث في أخلاقيات ومبادئ التجارة عبثٌ في أمر مقدس.. وبرأيي أن هذه القداسة تأتي مباشرة لارتباط حياة كل فرد ارتباطا عضويا معاشيا مع التجارة. يعني، التجارة بها لمعةُ القداسةِ لأنها هي التي تنفع البشرية وتقضي حاجاتها ورغائبها، وهي تجارةٌ واتحادٌ مع الشيطان عندما يكون الهدفُ هو مصّ دم السوق خصوصا في أوقات المحن، كالفقر الشامل، والكوارث الضاربة.

على أن هناك مسؤولية مهمة أيضا أشار إليها السيد الجشي بأن رجال الأعمال يسهمون في كل الأعمال الوطنية والاجتماعية، وهذه حقيقة، ولكنها حقيقة يجب أن تكتمل..

أقول لرجال الأعمال، وأنا محسوب عليهم أعانهم الله، أن كل ما يعمله رجلُ الأعمال في الشأن الاجتماعي، والمساهمة في رفع مستوى مجتمعه، ورفعه من الجهل، وإنهاضه من الفقر، وإنقاذه من مستنقعات البطالة، ودفعه للبناء الفردي العملي وبرامج المساعدة العصامية، إنما هو ينفعه هو أولا، قبل الناس.. يعني كما نقول بالسائد: "ما لنا مِنّة!"، لأن رجل الأعمال يعلو عمله أيضا كلما غمَس يدَه فعلا في العمل الاجتماعي، كلما عمّ نفعُه على أكثر الناس، لماذا؟ ببساطة عملية إدارية تسويقية: لأن الناس هم الزبائن في النهاية، ولأن سمعة التاجر هي الأصل الحقيقي في بيان أصوله مع أنها لا ترى في قائمة الأصول إلا أنها الأصل الأول، والأصل الأخير.. بل إن الإفلاسَ التجاري أقل ضررا بكثيرٍ من إفلاس السمعة، أعرف تاجراً جباراً أُطلِقُ عليه "طائر الفينيق" خرج أكثر من مرة من ورطاته المالية الكبرى والتي حسب الناس أنه لن يخرج منها، والسبب أن له سمعة ببريقٍ أشدّ لمعانا من بريق الألماس.

إذن هي فوزٌ للطرفين، لا منّة لأحدٍ على أحد، فإما أن تتحالف مع ناسك ومجتمعك وتكسب وتعيش ضمن بيئةٍ صديقةٍ، وربما نلت شيئا من هالة السمعة السامية التي تلحق المحسنين وذوي القلوب الكبيرة.. أو أن تذهب حليفا للشيطان!

ومن يختار بوعي أو بغير وعي أن يحالف الشيطان، برفع السعر رفعا غير مبرَّر، وقفل مخازنه في وقت الشدة ليضغط على رافعة الأسعار لترتفع إلى أعلى من جهة وتسحق قاعدتها رأس المستهلك في التجزئة من جهة أخرى، فيجب تصحيح القاموس هنا، سيتغير اللقب من تاجر، والذي يجب أن يكون بضميرٍ عدلي كبير، إلى لص. فرافعُ الأسعار عمدا فوق المعدل مثل اللص الذي يضع يده في الزحام ويسرق ما في جيوب الغافلين. ويتغير لفظ آخر بالتبعية المنطقية الحتمية، "الربح" إلى.. النهب!

مهمة القطاع الخاص كي يفعل مساهماته الاجتماعية يجب أن تصب في تجفيف منابع الفقر، وردم حفر الجهل بالتدريب ووسائل الرفع المهاري المهني والتجاري، وتوسيع قاعدة الوظائف ضمن نظام ديناميكي دقيق وصارم يضمن مسارا مهنيا للارتقاء لمن يستحقون الارتقاء. وهنا نصل إلى ما يسمى بِـ "إدارات المسؤولية الاجتماعية"..

وسيكون لنا حديثُ فضفاض، إن شاء الله، عن الخطأ الملازم لعملياتنا الاجتماعية في الشركات الكبرى بالبلاد، ونقتصر اليوم بالقول إن تنظيم "صناعة" المسؤولية الاجتماعية أساس ركين لردم الصدع الذي ضرب في جدار الأمة، حين دارت في الرأي العام صورةٌ حالكةٌ عن القطاع الخاص وكبار ممثليه من كبار الأسماء التجارية والمالية، والدور المصرفية والبنوك، والغرف التجارية..

نشاطات أعمال المسؤولية لاجتماعية في الشركات حالياً مفككة ومتناثرة، كالعصي الفالتة من حزمتها فيسهل انكسار كل عصا، كلما اجتهدت الشركاتُ منفردة فإن هذا لا يطفو على البحر العريض للأمة، وإنما على أحواض صغيرة هنا وهناك سرعان ما تجففها شمسُ الحقيقة: محدودية الامتداد!

أقترح توحيد جهود المسؤولية الاجتماعية عبر البلاد لتعم كل البلاد، ومأسَسَتُها علميا، فهناك علم قائم لها بالجامعات الغربية، بأن يتنادى رجالُ الأعمال في اجتماع عام تحت سقف الغرف التجارية، وأجندة الاجتماع سؤالٌ واحد: كيف؟