عائشة .. حتى لا يبكي حبيبٌ على حبيب (1 من 2)

سنة النشر : 28/08/2010 الصحيفة : الاقتصادية

 

رمضانيات - 6

هل تعرف ما معنى أن تتلمس الحياةَ بجهازٍ؟

هل تعرف أن تكون أنابيبُ ومرشـَّحات وإبـَرٌ تنهل الدمَ من الأوردة هي الصلة بالحياة؟هل تعرف أن تكون هذه الجلساتُ الثلاث الأسبوعية لساعاتٍ هي شحنٌ متجددٌ للحياة، فقط لكي تستمر طاقة الحياة ليومين أو ثلاثة أيام.. ثم تعيد الشحنَ من جديد، تماماً كما يُعاد شحنُ بطاريةٍ بالطاقة قبل أن تخمدَ وتموت؟

هل تعرف أن ينتهي عضوٌ في جسدك تماما ويعلن الانطفاءَ النهائي، ثم لا يبقى في الدم إلا سِمٌّ زعافٌ يلوث ويهتك بخلايا كل الجسد الحي من الدماغ حتى آخر خلية عظم وعصب إلى نهايات الأطراف.. لأن المصفي الطبيعي الذي وضعه اللهُ في أجسادِنا كي ينقي تلك السموم ليعود الدمُ سائغا نقيا ليكمل دورة الحياة في الأوردة والشرايين قد كف عن العمل. كشمعة تطفئها ريحٌ رويداً رويداً حتى تعلن انطفاءً نهائيا..

الكليتان هبة من هبات الله في الجسد البشري، تلك النفرونات الصغيرة المجهرية التي تعمل في كل ثانية المعجزات ليخرج فائض الأيض الحيوي السام من الجسد ليبقى متعافياً نشطا مشعاً ببريق الحياة..

الكليتان رغم أنهما أثنتان، ورغم أن الإنسان من الممكن بقدرة خالقهما، أن يعيش ببـَعْض كليةٍ سليمة واحدة حياة بكامل أدائها الحيوي.. تخفتان لسنوات ثم معاً تعلنان الاستسلامَ النهائي بلا ألم، بلا تحذير، خصوصا لمن لا يفحصهما مرة في السنة على الأقل.. ثم يبدأ الألمُ ضارياً عندما تبدأ السمومُ تعيث خراباً وتدميراً في التناغم الإعجازي في مركبات الجسد الكيميائي والكهربي والعصبي.. ولمّا لا يكون هناك فرَج للإنقاذ فإنه التسمم حتى الموت.

هكذا مات آلافُ الآلاف قبل منتصف القرن العشرين، ألم تطلـّع في التراث عن شُعراءٍ ورحّالةٍ وأبطال سيَرٍ قيل جاءهم النافخُ، فانتفخت أجسادهم حتى ماتوا.. إنهم ماتوا تسمما بفشل الكلى التي لم تعد تطرد بقايا السموم، واحتـُجـِزَتْ المياهُ في أنسجة أجسامهم حتى تهتكت الأنسجة لغرقها بسمومٍ تدور، وتدور، حاملةً مناجلَ الموت..

وكانت الرحمةُ الكبرى هي ما اكتشفه الطب العصري وسمي ب ''الهيمودياليسس''، وال''هيمو'' هي الكلمة اللاتينية المتعلقة بالدم.. وعربها اللغويون المختصون بالديلزة أو بالغسل الدموي. لذا كان جهاز الغسيل بمرشحاته الصناعية هي تلك الأنابيب، هي تلك الأبـَر هي، هي ذلك الشحن الدوري لمقوّمات الحياة.. إنها القفز كل يومين أو ثلاثة بين هوّة الموتِ وبرزخ الحياة.

لا غسيلَ دم.. لا حياة

في الهند وإفريقيا.. كل يوم أطفالٌ ورجال ونساء تنقصف أعمارهم فقط لأن لا مرافق توصلهم لمستشفياتٍ مجهَّزة.. مع أن هناك حملةً عالمية تدور أريافَ العالم لتنقذ من تستطيع إنقاذه.. على أن الفشلَ الكلوي، ومرافق علاجه، نشبّهما باثنين يتسابقان، كلٌ يحاول أن يأخذ السبَقَ من الآخر، ولكن الفشل الكلوي دوما يتقدمُ في السباق.

ولمّا نجحَتْ حملاتُ مكفحة الملاريا والكتاركت لإزالة غشاوة البصر في مستنقعات العالم المتفرقة وأحواض بركه وضفاف أنهاره، فلأن العلاجَ خفيفٌ في الأدوات، ومحتـَمَلٌ في التكاليف.. إن حملاتِ مواجهة الفشل الكلوي ليس لها ذات الحظ، فهي ما زالت باهظة لتكاليف، معقدة الأجهزة، حتى بدخول الأجهزة الأصغر المتسارعة، وحتى بوجود ما يسمى بالغسيل البريتوني في البيوت، وهو عملية تراشح عبر النسيج البريتوني السابح فوق المعدة والأمعاء بسوائل تعلق بقوارير تـُستـَبدَلُ إدخالاً وإخراجا لإنفاذ السموم لخارج الجسم..

ولقد راجت مقالات وتعليقات تريد أن تتولى الدولة مرضى الكلى، وتلوم وزارة الصحة.. بل تجرأتْ بعضَها وقالت لا نريد المساهمة في عمل كان يجب أن تقوم به الدولة..

وهنا يحقّ لي أن أتعجب.. فعند حشرجات الموت لا تكون الأولوية للنقاش سواء أكان الرأي صائبا أم زل عن الصواب، ولا والوقت للمناقشة وتحليل الأسباب، فالسمومُ وهي تفترس أجسادَ المرضى بالفشل الكلوي لا تنتظر نتيجة النقاش، ولا هي مجبرة لإعطاء وقت ومهلة للصبر، بل تمضي في تنفيذ مهمتها في خنق الحياة، وهنا تكون الأولوية المطلقة لإنقاذ حياة الناس.. أليس هذا ما تفكر به وأنت ترى من يشرف على الغرق؟ لا تسأل كيف وصل للـُجّةِ بلا رقيب أو حارس، بل يكون التفكير هو إنقاذ الغريق.. يأتي تتلقائية الحس البشري حتى بلا تفكير!

لذا كان يجب أن يُنقذ الغريق، وبعد ذاك أو معه من الممكن النظر في العتب أو تحليل الأسباب والبحث عن الحلول..

وحتى لا يغرق مئاتٌ من إخواننا وأخواتنا، بناتنا وأولادِنا بسمومٍ غرَقا أليماً حتى الموت.. كان يجب أن يأتي المنقذ، أو من يحاول الإنقاذ..

جاءت حملة ''كلانا!''

وإن صبرتم معي ليوم الإثنين أخبرتكم كيف فجّرت عائشة كل تلك المشاعر التي جعلتني لا أركز إلا في المنقذ ولا أفكر في غيره..