سنة النشر : 21/08/2010 الصحيفة : الاقتصادية
.. صغيراتي: حتى وإن كانتْ هناك أخطاءٌ، فمِن الأكثر إيغالاً في الخطأ أن نعالجها بخطأٍ آخر.. قد يكون أشدّ خطراً!
كانت بيدي وبعقلي مواضيع كثيرة أرتـّب جدولتها لأنقلها لكم هنا، لولا هذه الرسالة، وهي رسالة غريبة لأنها جاءت عن طريق وسيط، وموجهة إليّ شخصيا وتفيد ''الزعيمة'' وهي معدّة الخطاب أن الخطابَ موقع من مجموعةٍ من الفتيات في المرحلة الثانوية، وصفـَتهن بالناقمات على الظلم الاجتماعي الذي تفرضه العاداتُ على الفتاة في مجتمعنا. والرسالة لم تطالب بشيءٍ يمكن أن يهضمه الفهمُ أو الضميرُ الإسلاميَين لأنه أتي عن غضبٍ يجب أن أتفـَهَّمه وأفهم دواعيه.
لطالما كررتُ أني لستُ شرعياً، ولكني أؤمن بأن الإسلامَ هو دين الفطرة، أي دين الحياة بطبيعتها، دينُ المنطق الإنساني في تكوينه وتشريحه وسبب وجوده. وهذا اليقينُ لا يهتز عندي، ولم يهتزّ منذ وعيت.
وصحيح أن هذا الدين مُلئ بضبابٍ وتعسف إلا أنه يبقى رغم تكاثف السحب السوداء شمساً قدسية تجد أنوارُها مخارجَ لتعمّ الكونَ وتكشفُ ثقلَ الظلام ..
تقول الصغيراتُ إنهن يردن أن يكن منطلقات تماما كالشباب، ويردن أن يتحرّرن من العباءة، ويردن أن يمارسن القيادة، ويسافرن وحدهن بلا محارم. وكل هذا يحتاج إلى وقفاتٍ شرعية حادبةٍ وليست غاضبة أو منتقدة، فمشكلتنا الأولى أننا نعالج الغضبَ بالغضبِ. وبما أني لا أملك العلمَ الشرعي، وحتى لو ملكته فالإفتاءُ قد مُنع إلا بترخيص، فسأترك هذه التساؤلات لأهل العلم.
لكن الذي أيقظ تلك الحبيبيات في كل جلدي هي لما قلنَ: ''وأن ننعتق من حبّ رجلٍ واحد اسمه الزوج..!'' هاه، هنا جاء دوري..
سأثبت لكن، وبحدبٍ وحبٍّ والله، أن تغيير طبيعة المرأة التي خلقها اللهُ من أجلها مستحيل. لا لن أستدلّ بكتب المراجع، ولا بالأثرِ أو بالتراث.. ولكن من عين العصر، ومن أكثر شخصين في تاريخ الفكر الإنساني كلـّه ثورة ضد الدين، والعادات، والتقاليد، وكل ما قبلته البشرية قبلهما.. وهما قطبا الوجودية ''جان بول سارتر''، وخليلته ''سيمون دي بوفوار''.
قامت الوجودية ''السارترية، وأسميها الوجودية العبثية''، على عدم الإيمان بشيء إلا بما يشعر الإنسانُ لنفسه فقط، بغير ارتباط أو احترام لأي شيءٍ أو نظامٍ أو فكرٍ عداه، أو ما يريده لنفسه. وكانت ''سيمون'' فتاةً متحرِّرةً وشغِفتْ بالوجودية، يظن البعضُ أنها تولـّهت بحبِّ سارتر، والحقيقة ليست كذلك. فهي كانت مثلكن غاضبة على سيطرة الرجل والكنيسة والموروث (بحكم أنها من عائلةٍ فرنسيةٍ ريفية صارمة)، فسارتر لم تكن به صفات الـ ''فالنتينو''، أو معشوق النساء، فقد كان يهودياً قميئاً قليلاً أحولَ بغيض الرائحة، مفتوناً بتألـّهٍ بنفسه فلا يرى إلا هو.. بكلمة: ''لا يُطاق!''. وسيمون دي بوفوار ارتبطت كخليلة فكر وحياة مع ''سارتر'' وسكنا في شقةٍ واحدة تماما كالأزواج .. ثم أحبته وهذا دليل على أن الحبَّ أعمى!
الغريبُ ما حصل بعد ذلك ..
كان سارتر لعيناً موبوءا بلذاته لا يكترث أبداً بشعور الآخرين .. أليس هو من رُسُل الوجودية؟ (ليس هو مؤسس الوجودية، المؤسس هو كيركيجارد، وكانت وجوديةً إيمانية) وعاشت البنت سَيْمون لم تخن زوجَها (آسف خليلها)، لماذا؟
بما أنهما وجوديان لم يكون لارتباطهما أي هيئةٍ كنسية أو مدنية. اتفاق، ليس إلا. في يوم دعت ''سيمون'' صديقةً لها لتقضي وقتاً معهما في شقتهما، فاستهوتْ الصديقةُ ''سارتر'' وأقام معها علاقة (وهذا من ''ضمير'' الوجودية العبثية) تقول ''سيمون'' في كتابها ''زهرة العمر'' The prime of life، إنها لم تحتجّ على تلك العلاقة علناً، ولكنها كانت تغلي من الداخل، وهنا يا صغيراتي إذن الشعورُ الطبيعي الذي زرعه الله: الغيرة على الزوج! وكي تنتقم من صديقتها وتتخلص من شعورها القاتل بالغيرة ألـَّفَتْ سيمون كتاباً اسمه ''المدعوّة''، تصور زوجين (فعلا) تدخل فتاةٌ بينهما فتفسد الزوجَ على زوجته، فتـُقدم الزوجةُ على قتل الفتاة. وتقول ''سيمون'' إنها ارتاحت وكأنها هي التي نفـّذتْ الحكمَ في صديقتها. أترين يا صغيراتي: إنه شعورٌ يقوّضُ كل ما تدعو له الوجودية، وتفرض ما أسّسه الله.
وإني من المعتقدين بأن الإخلاصَ في المرأة غريزيٌ أيضا، وعدم إخلاصها إنما يكون ثورةً على طبيعةٍ غريزيةٍ. فسيمون دي بوفوار سألوها: ''كيف تتحملين كل أخطاء سارتر؟ وهل هناك خطأ يجعلك تغضبين عليه؟''، خمِّنوا بماذا أجابت؟ بكل إخلاص زوجة ''طبيعية'' قالت: ''أسامح أي خطأٍ له، إلا خطأً واحداً: أن يموتَ قبلي!''.
ما أرادت أن تغيّره رئيسة الوجودية، لم تستطع أن تغيره لنفسِها.. لأنها إرادة الله.
ماتت ''الزوجة الوفية'' سايمون دي بوفوار، وهي تقضي بقية عمرها سنين طوالا على شرفة .. أما الشرفة فتطلّ على مقبرة .. وأما المقبرة ففيها قبرُ حبيبها، سارتر!
صغيراتي، أقدر غضبكن .. وأريد منكن التأمل في هذا بعد أن يزول الغضبُ. وليتيي أسمع رأيكن بعد القراءة .. وبعد الغضب!