سنة النشر : 13/08/2010 الصحيفة : الاقتصادية
* ملاحظة: ستتوقف «مقتطفات الجمعة» لرمضانيات.
.. هذا مقالٌ كتبـَتـْهُ العاطفةُ.. لأن العقلَ هو ما عمَله من سأتحدث عنهم هنا.
هذا مقالٌ استثنائي، لأن الاستثنائيين هم من سأتحدث عنهم هنا.
هذا مقالٌ انتظرَ رمضان، لتـُكثِروا الدعاءَ لمن سأتحدثُ عنهم هنا.
هم ناسٌ يدعونني للجنوح في الخيال المُذاب بسيول الذهب النقي، حين يكون الذهبُ عنصراً خاملا، ثم يتحول إلى أثمن ما على الوجود.. وصَوَّرَهُ الخيالُ المجنَُّح وكأنّ بعضاً من الناس ملائكة على الأرض بجناحٍ واحدٍ، ومتى التأموا مع بعضهم استطاعوا الطيران، محلقين في سماءِ الصفاءِ والنقاءِ والسمُوِّ.. وصفةٌ أخرى تكون تاج الصفات: الشجاعة!
أحدثكم عن المدمنين السابقين المتعافين المجهولين، الذين يمارسون عملاً لا يمكن وصف روعته وجماله، ويمارس في الخفاء النوراني، إن كان للخفاءِ أنوارٌ. إنهم يُنـَقـُّونَ نخاعَ هذه الأمّةِ من أفجع كوارثِها بشبابها، بناسِها؛ الإدمانُ على المخدرات. ولقد نخـَرَتْ هذه السوسة في عظامِنا حتى أوجعتنا، وصار أنينـُنا صراخاً تتجاوب له أرجاءُ الأماكن صدَىً يجرحُ الأسماع.
لم تكن معرفتي بزمالة المدمنين المجهولين قريبة في المناسبة التي سأحكيها لكم، ولكن كانت قبل سنتين. فمن يقرأ لي قد يسترجع مقالاتٍ لي من زمن تحت عنوان «أصدقاء الفضاء»، وهم الناسُ الذين يجاورونني، أو أجاورهم، في المقاعد في رحلات الجو، وتعرفت على عشراتٍ منهم، وكتبتُ عنهم مرارا، ولو كان الوقتُ متاحاً لخرج كتابٌ بهذا العنوان لم أؤلفه هنا، إنما تلك العقولُ والأنفسُ والأرواحُ التي جاورتني بعبقرياتها، بآلامِها، بنجاحِها، وبانكسارها.. صداقاتٌ استمرَّتْ، وصداقاتٌ ذهبَتْ مع أول حقيبةٍ تتهادى على حزام الأمتعة.
كنت وقتها مسافراً إلى الأردن، ودائما أتطلـّع للكرسي الخالي حين أصِلُ مبّكراً، من يا ترى سيكون بجانبي هذه المرة؟ و.. أتى. رجلٌ أنيقٌ بشكلٍ مفرط، وجهُه جميلٌ ومكشوط، وبسمته كبيرةٌ جذابة، رغم أن الأسنانَ تشـُفُّ عن مغامراتٍ صبغـَتْها بلون الطين. جلس بجانبي ببذلته «الأرماني»، وساعته الأوميجا البراقة، وعرفتُ من الشعار أن ربطة العنق «فيرزاتشي» ضاربة الخُضرة، على قميص أبيض بنصاعة قلبٍ طاهر، يثبته بربطةِ العنق مِمْسَكٌ بشعار جامعة هارفارد.. غريبة!
جنسيته؟ هذا ما أسأل نفسي دائما قبل أن أتطفل على جاري، الذي لا أدري إن كان سيستمرّ جاراً، أم ستصنع الرحلة منا صديقين؟ واحترتُ، بشرتُه وردية، وعيناه بلون العسَل المحروق، ولحيته العارضية بيضاء كنُدَف الجليد، بلا شارب، وكأن وضع على شفاههِ لمسةً من حُمرةِ الشفاه، إلا أنها كانت حُمرةُ الصِّحة الطبيعية. كان يمكن أن يكون تركياً أو شامياً أو أوروبياً، بشعره الكستنائي الخفيف المخلوط بعناية المصففين بالخُصَل البيضاء الناعمة، ولمّا جلس بجانبي.. نام. وصرَرْتُ على أسناني قهَراً، لا أحب أن ينامَ جاري. ولكني رأيتُ جوازَ سفره.. سُعوديا!
حمدتُ اللهَ أن المُضيفة أيقظته لتسأله إن كان يريدُ وجبة العشاء، أم تتركه ينام، فأجاب بإنجليزيةٍ بلهجةٍ أمريكية يانكيةٍ (شمالية) خالصةٍ، وبمرح بضحكةٍ مجلجلة: «خلاص أنتِ أيقظتِني.. ها،ها». ولم أكن لأترك الفرصةَ تهربُ مني، قدّمتُ نفسي، فعرَف شخصاً من عائلتي، فبدأ الحديثُ حميماً من أول كلمة. وصرنا أصدقاء. عرفت منه أنه في زيارةٍ لجامعة «هارفارد»، أعرق جامعة على الكوكب، مدعو كأستاذٍ غير متفرغ، ولم يقف عن إذهالي بجمال صُحْبته، وروعة أحاديثه، وغزارة معلوماته، حتى إنه شرح لي مذاهب ومقامات المتصوفة في دقائق، ثم عن العلوم وأثرها في مسألة تطور تشريح الدماغ، وكلامٌ ادعيتُ أني أفهمه.. تكلمنا وتشعبنا ثم عرجنا على المجتمع.. ثم قال لي: «أتعلم أني أحببت صفة لي خرجت منك لما قلتَ لي إن نجاحك عريض، هل تريد أن تعرف أين نجاحي الحقيقي؟ هل سمعتَ بزمالة المدمنين السابقين؟» هززتُ رأسي نافياً... وتابع: «إنها زمالةٌ ليست سرية، ولكنها صارت كذلك بطبيعتها لأن المدمنين بالطبع لا يريدون التصريحَ علناً بما يفعلون حتى في طلبِ الشفاء..»، وقال إنه تعرف على هذه الزمالة وهو طالبٌ في أمريكا، ونطق اسمها بالإنجليزية Narcotics Anonymous، ثم انتمى لها؟ وسألته لمَ؟ قال: «أنا مدمن سابق!». لم أتمالك نفسي، وخرجَتْ من عيني دمعاتٍ، قال: «ما بك؟»، ولكنني بتلقائيةٍ مشحونةٍ فكـَكـْتُ حزامَ الكرسي، وتناولتُ جمجمته الجميلة وقبّلتُ جبيناً وضّاءً أراحني وحرّرني. ولكنه لم يترك المناسبة بلا قفشةٍ من قفشاته ليرد وهو يحاول منعي تواضعا: «يا رجل أنا كبرتُ على هذه الأشياء.. ها، ها».
ذلك الهارفاردي، عرفت أن عشراتٍ من المدمنين الشباب عندنا شفوا تماماً على يديه بعد توفيق الله، وقادوا حياةً ناجحة. وهو يتابعهم واحداً واحداً، وهذا واحد من أهم طقوس زمالة المدمنين المجهولين: المتابعة.. لأن الزمالة شيءٌ يبقى.
* يتبع يوم غدٍ السبت..