سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
.. استغربتُ أن يطرأ على وعيي وبشدة جائزة نوبل، وفي رمضان، وتكرر هذا الإلحاحُ أكثر من مرة وبقي شديدا..
ثم أني تساءلت: ما الذي جعل الموضوع يلح علي هكذا، فتذكرت أني في الخارج قرأت قصة سعودية ومبنية على هتكٍ سافر لما قام عليه المجتمع من ركائز مقبولة في العرف والدين، ما أسميه جمعا بالذائقة الجماعية، وأنا من متحمسي مراعاة الذائقة العامة للمجتمع والناس، وعدم الاصطدام بها، لأن الصدام معها يربك التماسك المنشود في جدار الأمة، ويحدث بقعا وخروقا في النسيج الكبير للمجتمع.
تصيدا للشهرة والجوائز العُليا ينسى المؤلفون هذه القيمة الاعتبارية التأصيلية المهمة فيجدفون حولها، ويرمونها بمنجنيق أحجار الأفكار والرؤى، فتخلخلُ التماسكَ الداخلي، وتحدث به تشوهات صغيرة أو كبيرة، دائمة أو وقتية، ومن أجل ماذا؟ من أجل تلمس الإعجاب الخارجي، وتصيد الشهرة في وسائط الإعلام الغربي الذي طبعا لا يهمه تماسكنا أبدا، بل يهمه أولا وآخرا تمسكنا به.. والمشي وراءه مخدرين بأفيون الإعجاب والهيام به.
والقشةُ التي قصمت موانعَ أن يظهر الموضوع ما شاهدته في قناة "العربية" في مقابلة مع الشاعر السوري الأشهر "أدونيس". وأدونيس معروفٌ في الدوائر الثقافية، وقد يكون نابغة من النوابغ، وقد يكون مصيبة من مصائب الأرض، وقد يكون مجرد شاعرٍ لا راحَ ولا جاء.. ولكن فرصة أدونيس التي يتصيدها هي الذيوع العالمي، وقد تحمست له الأوساط العالمية بشدة خصوصا الأوساط الفرانكفونية، وزينت له الطريقَ إلى جائزة نوبل حتى صارت حلمه الأكبر، وإن كان الآن يعترض على الحديث في الموضوع، وأبدى ذلك للمحاور في المقابلة. محور الفكر الأدونيسي (اعتمد هذا الاسم شهرة من الأساطير، وغمَر اسمَهُ العربي الذي ولد به..) الذي مهد له الذيوعَ والشهرة ليست إبداعاته في الشعر الحديث – في رأيي أن كثيرين يتجاوزونه خصوصا في المعاني والإيقاع - ولكن لجرأته المتعدية على ما سماها هو بنفسه الثوابت والأصنام الفكرية، وهو يقول لمحاوره بصراحةٍ شديدة أن الشعرَ العربي لن يتسع آفاقا وعالمية ونبوغا إن لم تنفتح له آفاق طرح الأسئلة في كل شيء، وخصوصا طرح الأسئلة في الدين، فليس في الشعر من خطوطٍ حمراء كما قال، ويجب أن يكون له الحق في مساءلة أكبر الأشياء وأهمها مساءلة الدين. هذا الرأيُ يصدم الذائقة العربية والإسلامية عامة، ولكنها ستعجب جدا الرأي الغربي، وبالذات القائمين على الجوائز العلمية، وأهمها نوبل.. حلم أدونيس الذي حتى الآن لم يتحقق.. والعمرُ يجري كالبرق!
أنهيتُ قراءة قصة بالإنجليزية لكاتب تركي مشهور اسمه "أورهان باموك"، وكانت القصة في الحقيقة تقارب الإتقان التقني والإمتاعي الكامليْن، وتفوقٌ محلـِّق في الآلية السردية، كـتبها من قلبه ومن مجتمعه، ولم يتصادم معه، بل نقله نقلا جعلني كقارئ أتفهم ما يجري في تركيا أيام قصته ( اسمي أحمر My Name is Red ) من طرق صوفية، وخرافات متوارثة ومقلدة ومن زوايا الطرق التي كبرت وتفرعت وشطت مع القرون، ولكنها صورة حيوية وتقابلية وصادقة لبلده وفكره وطبيعته وتقاليده، كتب بقلمٍ تركيٍّ من قلبٍ تركي من مشاهد تركيةٍ ناقلا لنا صورةً عبقيةً زمنية اجتماعية عن المجتمع التركي وعن مدينته إسطنبول وحواشيها، ولم تكن فيه ذرة تقنية غربية، فرغم الترجمة إلا أن الروحَ التركية بقيت صافية وخالصة، ولم تكن متملقة لفكر آخر، أو لاستجلاب عطف القلوب الباردة لكهنة نوبل في استكهولم.. هذه القصة تحمست لها الـ "نيويورك تايمز" في قسمها الثقافي فكتبت: "نجمٌ جديد بزغ في الشرق". الكاتبُ التركي هذا حصل على جائزة نوبل رغم تركيته الخالصة.
ما عُرف عن "باموك" بكل قصصه، منذ هجر الهندسة ضد رغبة أبيه الوجيه الثري، واتخذ الكتابة مصيرا ومهنة، وهو يحاول أن يبرز الثقافة التركية تأصيلا أمام الثقافة الغربية حتى لا تموع بها، وخرج تقريضٌ من أكبر ناقدي الغرب بأن أدب باموك أفضلُ من كتاب "صدام الحضارات" لهنتنجتون الأكاديمي الأمريكي، وأن فلسفته أنصع وأوضح وفيها حلول للتقابل بين الحضارات، لا التصادم معها أو التحمس مع إحداها..
إني أحلم أن يخرج من عندنا كتـّابُ رواياتٍ كبار، ويتأهلون لنوبل وغير نوبل، ولكن من ثقافة صحيحة، ومعرفة متينة، وعلم قوي، وقدرة فذة، ومن واقع كونهم أبناء جلدتهم، وبلدهم، والأهم دينهم وتراثهم.. لا أقول يجب أن يكونوا مبشـِّرين، ولكن أن يكونوا متفهمين لإيقاع الأحداث والأفكار والقيم وهكذا يكون رتم القصص التي تحقق لنا ما نريده من لقاء مع الآخرين، لقاء المعتز بحضارته، والذي يريد أن يفتح عقله أمام الحضارات الأخرى.. لا الذي يبيع حضارته وقيم مجتمعه في وريقات صفراء ضعيفة التقنية، مسلوبة المعلومات، بلا عبقرية الموهبة، وإمضاءات الفكر العميق.. ثم ينتشي إن صفق له الغربُ لشجاعته.. وأستغرب لماذا لم ينتبه أي منهم إلى كلمة الشجاعة، ولمَ لمْ يتساءل لماذا لم يقولوا عبقريته، أو تفوقه الفكري، أو أدواته الروائية المتقدمة؟ لأنهم يريدون اعتبار الخروج على المجتمع بقيمه وحضارته وذائقته العامة.. شجاعة.
وأسميها أنا حماقة وتهورا..