كان ضحـّاكًا بسـَّامًا

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

رمضانيات-1

.. الابتسامة مفتاحٌ مضمونٌ للقلوب

وقيل عنا إننا قومٌ لا نضحك إلا قليلا، ونعبسُ كثيرا .. حتى إني يوما سمعتُ في الطائرة أجنبيَيْن يتمازحان لما حطتْ الطائرةُ في مطار الرياض وأحدهما يقول للآخر: "لا تبتسم .. أنت في الرياض!". وكأن أول قوانين المدينة تحريم الابتسام.

غير أن هذا غير صحيح في سواد الناس، فأنا شخصيا لي من الأصدقاء في الرياض من هم أكثر الناس ابتساما، بل إن صديقا كصاحبي رئيس شركة جرير رغم مهامه الثقال، وهو واحد من عائلات الرياض العريقة، لم أره ولا يوما واحدا بلا ابتسامة عريضةٍ على وجهه، ولما نتكلم في الهاتف يصر على القهقهة بعد أي تعليق .. إنه يقهقه حتى ولو غضِب، وبرأيي أن سرَّ عبقرية المهندس "محمد العقيل" هو هذه الروحُ العبقرية المرحة الضاحكة التي أعطته فسحة في الخيال والتأني والحياد من الظروفِ الضاغطة لكي يأخذ قراراته الكبرى .. وهو واحدٌ من صنـّاع القرارات الحرجة في النمو في الأعمال، وأثبت نبوغاً مسجَّلا.

ولكن، فلنعترف، لا دخان بلا نار..

الحقيقة تغيب الابتسامة أكثر من السابق في مجتمعاتنا، فحتى نظرتنا للابتسامة قد لا تـُفسَّر بالمعنى المناسب، وكثيرٌ منا يرى أنها تقلل الهيبة، وتربك الشخصية، وتصغـِّر القيمة، ولا أدري من أين أتينا بهذا التفسير لفلسفة الضحك والابتسام، ولكنه هو الحاصل عند فئة من الناس ليست قليلة .. أما شهرُ رمضان، وهنا العجب فيكاد يكون، من تجهم الناس وسرعة فقدهم رباط نزقهم، شهرَ الغضبِ والعبوس .. بينما كل ما في رمضان يدعو للابتسام. أولها ابتسامة الروح.

إن سرَّ إنسانيتنا الأولى برأيي أننا كائنات غير مستوحشةٍ ولا متوحشة امتيازا عن بقية المخلوقات، وأربط الأنس مع الأناسة، وهي التمتع بمشاركة الآخرين والأنس بقربهم ومعهم .. وما هي ترجمة هذا الشعور الغامر؟ إنها البشاشة، وما هي آلة البشاشة؟ الابتسام. فالإنسانُ كي يكسب الإنسانَ الآخر والجماعة يجب أن يكون هاشا باسما فتصل رسالة لهم منه معنونة كالتالي: "أني أحب أن أكون معكم، وأتعاون معكم، وأجمل لحظات حياتي وحياتكم .. بأن نكون معا". إذن من أصل جُبـُلَـّتـنا الإنسانية أن نكون ظرفاءَ ضاحكين .. وقبل اختراع اللغة، كيف كان يتواصل الناس ويبعثون إشارات السلام والحب والأمان غير هذه الفرجة العريضة على الشفاه. إذن، متى أصرّ الواحدُ منا على العبوس والتبرم والضيق والنرفزة أو الأنفة المزيفة والغرور المنفوخ فهو يرسل رسالة أخرى للناس: "أني لا أريدكم .." وهذا كما قلنا ضد أصل طبع الإنسانية .. فماذا يكون غير أنه مستوحش، صنع وحدة موحشة ولو في قصر من الذهب .. مكان بلا روح.

ولقد وصف القرآنُ العظيم صفات العبوس في مشاهد مرعبة تجعلنا نرجف بأن للعبوس مساهمة فاعلة في الإيحاء بالخوف والرهبة ومشاهد الموت وغضب السماء، ففي سورة الإنسان يقول تعالى:"إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا"، وقمطرير تعني أيضا شدة العبوسة بينما الفكاهة والظرف وعلائم السعادة من صفات أهل الجنة، حسب الآية: "فوقاهم اللهُ شرّ ذلك اليوم، ولقـَّاهم نضرةً وسرورا" والآية:(إن المتقين في جناتٍ ونعيمٍ فاكهين) . وتجد إنكار العبوسة سافراً في قوله تعالى: (عبَس وتولى).

وفد عُرف عن نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكونه من أفكه الناس وأظرفهم. ونعتمد بحديث أنس على ما جاء في "لسان العرب": أن النبي كان من أفكه الناس."، وعلى حديث زيد بن ثابت أن النبيَّ كان من أفكه الناس إذا خلا مع أهله.

وعن عائشة ـ رضي الله عنها، وقد سُئِلت: "كيف كان رسولُ اللهِ إذا خلا في بيته؟"، فأجابت: " كان ألين الناس، وكان رجلا من رجالكم، إلا أنه كان ضحاكا بســَاما".

وترى تركيز أم المؤمنين عائشة على قولها مثل أي رجل منكم أي يفعل ما يفعل بقية الرجال، ولكنها وضعت امتيازا نفيسا للنبي الكريم بخلع صفتي الابتسامة والضحك عليه. ومن لا يريد تلـَمُّس عتباتِ تميز سيدنا ونبينا محمد؟!

وهذا عبد الله بن الحارث الزبيدي يقول: "ما رأيت أحداً أكثر تبسما من رسول الله".

وفيما قرأتُ عن نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الموقف الذي أدمع عيني ابتساما وسعادة وصفاء وتعلقا عظيما بسيد الأنام، روي أن الرسول الكريم كان يسير في بعض أسواق المدينة حين رأى "زاهر بن حزام"، فاقترب من ورائه وهو لاهٍ واحتضنه وقال:"من يشتري مني هذا العبد؟"، والتفت زاهر فإذا هو الرسول يحضنه، وقال:"تجدني كاسدا يا رسول الله". فقال له النبي:"لا، ربيح عند الله إن شاء الله." ثم أن النبي الكريمَ أردف بقول مهم: "أني لأمزح، ولكني لا أقول إلا حَقـّا". وترى الحكمة والفلسفة في ذرى الدرس الإنساني، بألا يكون المزاح فارغا ممجوجا، بل فيه من المحبة والصدق وطيب النية مغلفا بالضحك والفكاهة .. وهنا فرق شاسع بين الفكاهة والمزح اللطيف، والفجاجةِ والتهريج.

ومن أرق وأجمل الروايات عن رسولنا الكريم وتقديره للضحك والابتسام والدعابة حكاية الجارية السوداء التي كانت تختلف إلى عائشة رضي الله عنها ( أي تزورها بين الحينِ والحين)، وكانت تحكي على عائشة وتضحكها، وقد يصادف أن يجدها النبيُ الكريمُ عند عائشة فيضحكون جميعا. وافتقدها النبيُ لزمنٍ فقيل له إنها مريضة على فراشها، فزارها ووجدها في غرغرةِ الموت، فقال لأهلها إن توفاها الله فأذنوني، ولما ماتت أذنوه، فشهدها وصلى عليها، وقال:" اللهم أنها كانت حريصة أن تضحكني، فأضحكها فرحا".

فمن يكون ضاحكا باسماً مشرقا، وبالذات بأيام رمضان.. فهو شمسٌ تمشي على الأرض!