سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
* رمضانيات - 2
.. الوزيرُ، ما هي وظيفتـُه، ما هي صفاتـُه، وما هي مواصفاتـُه؟
الدولةُ بأيدي الوزراءِ، والناسُ في أيدي الوزراء، وتأمل في هذا: الوزراءُ بأيدي الوزراء. الوزارةُ فلسفةٌ قبل أن تكون ممارسة، الوزارة مبدأ لعملٍ قبل أن تكون بداية لمهمة، الوزارةُ محطةُ عملٍ، وليست قطاراً يعبر محطة.. والوزارةُ سدٌّ تُجمَعُ وراءه المياه، وليست بئراً تـُنضَح منه المياه.. الوزارةُ منجمٌ كبيرٌ فيه الجواهر وفيه الحجر، فيجب أن يُعمـَل على التقاط الجواهر وهذا متعب ومضنٍ في أنفاقٍ مظلمةٍ وعميقةٍ ومُنهكةٍ، والنتيجةُ جواهر براقة على جبين الأمّة وعلى جبين الوزارة.. فمن السهل التقاط الحجر من أبواب المناجم، أو سلب الجواهر من أيادي العاملين الحقيقيين المغموسين في العمل حتى الدم والضنك..
صفة وزير.. تهزُ الضمائرَ، وتحركُ الخيالاتِ، وتضيء النجومَ في سماءِ الأحلام والطموح والمجدِ والتاريخ.. ولكنها تدوّخُ القلوبَ الضعيفة، والأنفسَ المتهافتة فتذهب للتاريخ، ولكن من خلال باب الركل الخلفي.. ولو نظرنا للتاريخ لرأينا الوزراءَ الذين ترصعوا نجوماً في سماءِ التاريخ إنما استندوا سُلـَّماً عاليا، وهذا السلـّمُ هو الناس.. من يظنون أنهم يصعدون من دون الناس، هم كمن يريد الصعود للأعلى من دون السلم، ومن يكتسب الناسَ ثم يتركهم وهو في المكانة، كمن ارتقى السلمَ ثم فجأة لم يجد السلمَ عند النزول، والوقوع من القمة.. موجع. موجعٌ جدا.
وانظر لهذه اللغة العربية الفخمة العميقة التعبير.. وتأمّل في كلمة "وزير" من أين أتت.. أي عارفٍ بالعربية له أن يتأمل ويخرج المعاني التي تسعفه بها حصيلته ومعارفه ومراجعه، ولكنها لن تتعدى معانيها الكبيرة..
فقد تكون كلمةُ وزيرٍ قد جاءت من "الوِزر" أي الثقل.. فالوزيرُ مناطٌ به حمل الأثقالَ وهذه مهمة رئيسة، فما وُضِع الوزيرُ إلا ليحمل عن كتف ولي الأمر ثقلَ مسؤولياتٍ جـِسام في قطاع من قطاعاتِ الأمة، وإن لم يكن الوزيرُ حمّالا شيّالا ينتفى غرضه من الأساس، فإن كان لا يحمل إلا القماشَ المطرّز على كتفيه، ولا ينقل بيده إلا حقيبة مطهمة بأوراق بحروفٍ مذهبة، فلا نظن أن هذا المقصودَ لا من الكلمة ولا من التعيين.. إن الوزارة مكابدة ومشقة، ولو عُرِف معناها الحقيقي وجوهرُ مغزاها لوُدِّع الوزيرُ المعيـَّنُ جديداً من الأحبابِ كتوديع المقاتل الذاهب لساحةِ الحرب.. وليس كالحاصل حين يصبون الأموالَ سيولاً من أجل تهنئته والتعبير عن الفرحة، فينسى بسببهم حياضَ الحرب، فلا يرى إلا أحواضَ الدعةِ والزهو.. ومن يخرج من الوزارة المفروض أن يُهنـّأ على الأبواب لأنه ترك الأثقال وحرّر كتفـَيْهِ وضميره، وأنه مشى بالحمل قدر ما استطاع. وليس من يحملُ ثِقلا قادرا على المضي بلا نهاية والحمل على كتفيه حتى لو كان هرقلا مستوردا من جبل الأولمب. وتأكد أن من يستمر من الوزراءِ مدة أطول من الجهد الإنساني المعروف، فهو قد نضى عنه حمله الثقيل من زمان، وبات يسير طروبا متحررا من الأثقال.. والأثقالُ ببساطة هي عبءُ خدمةِ البلاد والعباد في مجاله وميدانه.
وقد تكون آتية من كلمة "الأزْر" وتعني بالعربية الظهر، أو المتن.. ونقول آزره أي سانده وساعده.. فالوزيرُ عظم الظهر الذي يستند إليه كامل القطاع الذي يشرف عليه، وهنا تبرز صفات العظم الحامل لمتن الهيكل أو الظهر بأن يكون قانعا عارفا بحجم ما يحمل، لا يقبل ما يزيد أو ينقص، فالوزيرُ يجب أن يكون مقتنعا بما "كـُلـِّفَ" به لا قانعا بما "مُنِحَ" له، وأن يكون قوياً ليحمل كامل الهيكل فلا يتقوى عليه أحد من أي جهةٍ من الجهات الأربع، فإن كان ضعيفا تقوّتْ عليه الظروفُ والمستضعفون من موظفيه، والمتنمِّرون من خارج وزارته، فضاع وزاغ ومعه تهاوى الظهرُ. وتهاوي الظهرِ أشد أنواع الشلل. وفي عظم الظهر أعظم منظومة من حبال الأعصاب والعظم يحميها فإن انكشفت لضعفِ العظم ونخرِهِ عمّ الألمُ الفظيعُ والشكوى والصراخ.. أي فوضى مؤلمة عارمة. ومن صفات الشغل العصبي أن يكون الوزيرُ "موَصِّلا" للناس، لا "واصِلا" يقطع بالناس.
وفي رمضان تزداد حساسية الضمير، وتقترب السماءُ أكثر من كل الأشهر لمن على الأرض.. فنأتي للمعنى الثالث لمـّا تكون كلمة وزير آتية من (الوَزَر) من قوله تعالي: (كلا لا وزَر).. أي لا ملاذ ولا ملجأ.. فالوزارةُ تماما كالقضاءِ يوم كان القضاءُ يهابه العالمُ المسلمُ كمن ترتعد فرائصه من جهنم السعير. الوزارة بأهمية القضاء، تمس حياة آلاف مؤلفة من الناس في معاشهم اليومي، وفي أمان حاضرهم، ووعود مستقبلهم وأبنائهم، وفي أمنهم، وفي كرامتهم، وفي جودة وهناءة حياتهم.. أي إهمال أو تواكل للوزير على من هم تحت، أو التردد في قرارٍ عادل خوفا من إغضاب أحد، فقد ارتكب إثماً عظيما، فإن فلت من عقاب الدنيا ومن باب الركلِ الخلفي، فلن ينجو على الصراط في يوم آتٍ لا ريب فيه.. فأين الملاذ؟ وإلى أين المفر؟
والمعنى الثالث سيقود لكل المعنيَيْن اللذينْ سبقاه متى استعرض الوزيرُ مهمته وواجباته ومسؤولياته وعواقب قراراته قبل أن يضع اللقمة الأخيرة في إمساك اليوم الأول..
وندعو لكل وزيرٍ من قلوبنا بهذا الشهر.. أن يتقبل اللهُ صيامَه ويجازيه على كل أعماله..
وأن يعينه على حمـْلِ وظيفتِهِ، وأن يهديه كي لا تحمله وظيفتـُه!