سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
*رمضانيات-3
(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة..)الروم 21
..إن كانت هناك أخطاءٌ، فمن ألأكثر إيغالاً في الخطأِ أن نعالجه بخطأٍ آخر.. قد يكون أشدّ خطراً! كانت بيدي وبعقلي مواضيع كثيرة أرتـّب جدولتها لأنقلها لكم، لولا هذه الرسالة..
رسالةٌ مفاجـِئة جاءت عن طريق رابطٍ بمنتدى، وموجهة إليّ شخصيا وتفيد "الزعيمة" وهي معدّة الرسالة، أن الخطابَ موقعٌ من مجموعةٍ من الفتيات وصفـَتهن بالناقمات على الظلم الاجتماعي الذي تفرضه العاداتُ على الفتاةِ في مجتمعنا.. هذه العاداتُ التي لا يطبقها على النساءِ إلاّ من؟.. من غيرهم؟ الرجال!
الرسالة لم تطالب بشيءٍ يمكن أن يهضمه الفهمُ أو الضميرُ الإسلاميَان. لستُ شرعياً، ولكني أؤمن أن الإسلامَ هو دين الفطرة، أي دين الحياة بطبيعتِها، دينُ المنطق الإنساني في تكوينِه وتشريحِه وسببِ وجودِه. وهذا اليقينُ لا يهتزّ عندي، ولن يهتزّ.
فالبناتُ يقلن في الرسالة، إنهن يُرِدْنَ أن يكنّ منطلقات تماماً كالشباب، ويُرِدن أن يتحرّرن من العباءة، ويردن أن يمارسن القيادة، وأن يسافرن وحدهن. وكل هذا يحتاجُ إلى وقفةٍ شرعيةٍ حادبةٍ وليست غاضبة أو منتقدة.. فمشكلتنا الأولى أننا نعالج الغضبَ بالغضبِ. ولكن الذي أيقظ تلك الحبيبيات الصغيرة في بشرة جلدي هي لما قلن: ".. وأن ننعتق من حبّ رجلٍ واحد اسمه الزوج!".
.. هنا جاء دوري!
لن أشرّع، إنما سأُثبت لكنّ، يا بنات، وبمحبةٍ واللهِ، بأن تغيير طبيعة شعور المرأة التي فطرها اللهُ عليها مستحيل. لا لن أستدل بالمراجع الدينية، ولا بكتبِ التراث.. ولكن من عين العصر، ومن أمثولةِ أكثر شخصين في تاريخ الفكر الإنساني كله ثورة ضد الدين، والعادات، والتقاليد، ومؤسسة الزواج، وكل ما قبـِلـَتـْهُ البشرية قبلهما.. وهما قطبا الوجودية "جان بول سارتر"، وخليلته "سيمون دي بوفوار"..
قامت الوجوديةُ على عدم الإيمان بشيءٍ مسبق، وبغير ارتباط ٍأو احترامٍ لأي عقيدةٍ أو نظام أو فكرٍ عدا ما يريد المرءُ لنفسِه. وكانت "سيمون" فتاة متحررة وشـُغِفـَت بالوجودية، ويظن البعضُ أن هذا الشغفَ أخذها لأنها تولـّهت بسارتر. والحقيقة ليست كذلك، فقد كانت مثلكن يا بنات غاضبة من سيطرة الرجل والكنيسة والموروث (بحكم أنها كانت من عائلةٍ فرنسيةٍ صارمة) فسارتر لم تكن به صفات فالنتينو، أو معشوق النساء، فقد كان يهودياً قميئاً أحولَ بغيض الرائحة، مفتوناً بنفسِهِ فلا يرى إلا هو.. بكلمة: لا يُطاق. وسيمون دي بوفوار ارتبطت كخليلةِ فكرٍ وحياة مع سارتر، وسكنا بشقةٍ واحدةٍ تماما كالأزواج.
والغريبُ ما حصل بعد ذلك..
كان سارتر دنيئاً موبوءا بلذاتِه لا يكترث أبداً بشعور الآخرين.. فلا غرابة، أليس هو من رُسُل الوجودية؟ (على فكرة: سارتر ليس مؤسس الوجودية، المؤسس هو كيركيجارد) بينما عاشت سيمون مخلصة متبتلة بحبِّها.. لم تخن زوجها (آسف خليلها)، لماذا؟
صبراً معي..
ولأنهما وجوديان لم يكن لزواجهما أي صفةٍ كنسية أو مدنية، مجرد اتفاق. في يوم دعت سيمون صديقة لها لتقضي وقتا معهما في شقتهما، فاستهوت الصديقة اللعوب سارتر وأقام معها علاقة (وهذا في ضمير الوجوديةِ، عادي). وتقول "سايمون دي بوفوار" في كتابها "زهرة العمر The prime of life" أنها لم تحتجّ علناً، ولكنها كانت تغلي غيرةً من الداخل (وهنا إذن الشعورُ الطبيعي الذي زرعه الله: الغيرة على الزوج!) وكي تنتقم من صديقتها الدخيلة، وتتخلص من شعورها القاتل، ألفت كتاباً اسمه "المدعوّة" تصور زوجين (لاحظوا: زوجين!) تقتحمُ فتاةٌ حياتهما فتفسدُ الزوجَ على زوجتِه، فتـُقدِم الزوجةُ على قتل الفتاة، وصرّحت "بوفوار" فيما بعد أنها ارتاحت ونفـَّست عن غضبـِها وغيرتها الحارقة، وكأنها نفـّذت الحكمَ بنفسها على صديقتها!
قولوا لي يا بنات: أليس هذا شعوراً يقوِّضُ كل ما تدعو له الوجودية، وتفرضُ ما أسَّسَه الله؟!
الإخلاصُ عند المرأة غريزيٌ أيضاً، ومعاكسته ثورةٌ على طبيعةٍ غريزية. فسيمون دي بوفوار سألوها يوماً: "كيف تتحملين كل أخطاء سارتر، وهل هناك خطأ يجعلك تغضبين عليه؟"، خمنوا بماذا أجابت؟ بإخلاص زوجةٍ "طبيعيةٍ" تصون حبَّ زوجها، قالت: "أسامح أي خطأ له، إلا خطأ واحدا: أن يموتَ قبلي!".
ما أرادت أن تغيره الوجودية ونجمة الوجودية الأولى، لم يتحقق.. لأنها إرادة الله.
سيمون دي بوفوار "الزوجة الوفية" قضتْ بقيةَ عمرِها جالسة في شرفةٍ بذاتها، تحيك الصوفَ برتابة الساعة عدة أشهر.. حتى ماتت. ولكن ما سرّ جلوسِها في تلك الشرفة، ولمَ تلك الشرفةِ على الخصوص؟
.. لأنها الشرفةُ التي كانت تـُطِلُّ على قبرِ حبيبها، سارتر!
أعطوني زوجة أكثر وفاءً من سيمون والتي خـُيـِّل إليها أنها ثائرة على الارتباط بالزواج وبزوجٍ واحدٍ لكل العمر، وقالت في صباها كما قلتن تماما: "لا أريد أن أكون جارية لرجل واحد.."، ثم انتهت أن أسَرَت نفسها، رغبة منها، برجل واحد، بل بواحدٍ من أرزأ الرجال!
يا بنات، أقدِّر غضبكن.. وأريد منكن التأمل بقصة العاشقين الوجوديَيْن. وليتني أسمع رأيكن بعد القراءة.. وبعد الغضب.