سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
*(رمضانيات-5)
.. "هل ستغرقنا التقنية حتى ننسى قيمَنا السماوية؟" جزءٌ من رسالةٍ وردتني من القارئ المثقف والمتسائل الدكتور عبدالله بن رحمة وطلب مني التأمل فيه، ومشاركة القراء فيما سيكون نتيجة هذا التأمل. ويؤكد الدكتور أن التقنية شجّعت الإلحادَ، وأن هذا ملاحظ في الدول الغربيةِ حتى إنه عزّز مقولته بتقريرٍ قرأه بأن أجيالا ولِدتْ وماتت في القرن العشرين في الغرب لم تدخل الكنيسة طيلة حياتها, وأن الدينَ في أفضل حالاتِه صار ممارسة مثل الذهاب إلى المركز التجاري القريب، ففقد هالاتـَه القدسية، وأعماقه الروحية.. وينهي الدكتور مقاله بأننا يجب أن نتعظ من ذلك من الآن، وأن نتنبه لهذه الناحية الروحية المهمة حتى لا تنشأ أجيالـُنا في المستقبل على خواءٍ روحي بسبب تصاعد دور التقنية في حياتنا.
ما قاله الدكتورُ صحيح.. ولكني سأذهب إلى أبعد من ذلك، وأفرض أشد السيناريوهات قتامة، وهو ماذا إذا خذلتنا التكنولوجيا؟ ماذا إذا استقوتْ علينا التقنية والأوتمة ( الأوتماتيكية)؟ صحيح، ما الذي سيحدث حينئذ؟
سأبدأ بقصة صارت أثناء حدوث أعظم إنجاز تقني بشري في القرن العشرين، القصة التي حبستْ أنفاسَ العالم في أول نزولٍ بشري على القمر. كان روادُ الفضاءِ قد أعدّوا كل الأجهزةِ والمشغـِّلات الآلية للهبوط على سطح القمر، ولقد سمع العالمُ في عام 1996، المحادثاتِ الدائرة بين خبراء ناسا (وكالة الفضاء الأمريكية) على الأرض وبين روادِ الفضاء وكان حديثا تقنياً وتشغيلياً ثم تشعّبَ للحديثِ العام والفكاهةِ اللمـّاحة، ووصف جمال كوكبنا الأزرق.. وكانت الروح المعنوية للجميع في ذروتها.. ولم يُذكـَر شيءٌ غيبيٌ أو إلهي.. حتى وقت الهبوط.
فجأة.. تعطل المشغلُ الآلي. بلا سببٍ معروفٍ أضربتْ الأجهزة في الوقتِ الحاسم، وهنا حبسَ العالمُ أنفاسَه، ووقف علماءُ "ناسا" فوق طاولاتهم تحسبا وقلقا وتعالت الأصوات المرتبكة والمرتعبة محاولة لإصلاح العطل.. ولكن الذي صار أن أول كلمة سُمعت بعد أن تخلت عنهم التقنية المتقدمة، هي كلمة دارت على لسان الجميع: "يا ألله ساعدنا!".
اللهُ موجودٌ دائما، في الوعي لما يكون الإنسان مؤمنا، وفي اللاوعي عندما يكون الإنسان أرضيا ماديا بعيدا عن روحانية السماء، لأني على يقينٍ بأن كل من ينكر اللهَ سيبحث عنه في أعماقِهِ عندما يكون معرضا لخطر لا تنقذه منه القوى المدرَكـَة.. وفي "ناسا"، بذاك اليوم، بدأت العباراتُ الدينية تزداد والدعوات ترتفع حرّى في الأرض من العلماء المشاهدين الأرضيين، ومن الروّادِ في الفضاء.. بعد لأيٍ، شغـّل الروادُ أجهزة النزول يدويا حتى حطوا بسلام.. وشكروا الله كثيرا، أما "نيل آرمسترونج" رائد الفضاء، أول من مشى على القمر من بني البشر (وغير البشر) عاش كل حياته الباقية متديناً وصل حد التبتل. وهنا ترى كيف يعود الإنسانُ للدين وللخالق بعد أن تخذله التقنية، وأنا أؤكد لك أن التقنية من طبعها الخذلان.
نعم سيكون هناك جبروتٌ أكبر للتكنولوجيات والأوتمة وسيتحكم فينا الآليون لا شك, وهذا ليس من الخيال العلمي، فهناك قطاراتٌ تسير من المحطة إلى المحطة بلا تدخل بشري، وطائرات، وخطوط تصنيع لا يشغلها إلا الآليون، فتأثير الإنسان يقل، ولعل قرائي الأعزاء لاحظوا أن الآليين يقومون بالعمليات الأرفع تقنية، والأرقى دقة وذكاء، مما يعني أن الذكاءَ البشري والذاكرة البشرية في انحسار (من أبسط الأمثال الحاسبة الإلكترونية وهي أبسط أنواع الذكاء الآلي فمن منا يضرب الأرقام برأسه الآن.. أول شيء نفعله عند أي عملية حسابية هو ترقيص أصابعنا على أزرار الحاسبة .. أليس كذلك؟ بلا!، ومن صار الآن يحفظ كلَّ أرقام هواتفِ الأهل والأصدقاء، ألم يعفنا من ذلك الهاتفُ الجوّال، فضمرتْ ذاكرتـُنا (الرقمية!) والجراحات المعقدة صارت تجرى آليا مما سيؤثر مستقبلا في المهارة الجراحية اليدوية، أو حتى يلغيها، وأصحابُ الخطوطِ الجميلة اندثروا بفعل لوح المفاتيح هذا الذي نطبع عليه كتاباتنا.. إننا في عالم ستحكمه المعلومات المحفوظة والذكاء التحليلي وهذا ما سيفوز علينا به الآليون.. أو التقنية. وستكون الوظائف الدُنيا هي المتاحة للعمل البشري.. بل إن التقنية والأوتمة ستكون داخل أجسادنا (من يتذكر رجل المليون دولار، أو الرجل البيوني؟ والآن سلسلة الشرطي الآلي Robocop) وسيصير جزء مهم من الطب التعويضي آلات تحل محل الأعضاء في أجسادنا متى مرضت وأضربت عن أداء عملها.. وبالطبع مع تعاظمها العلمي والعسكري ستصير الأوتمة قوة عظمى بجبروتٍ أعظم.
وهذه القوى الهائلة السيطرةِ هي غاشمةٌ مها علتْ وتعقـّدَتْ وتطورتْ لأنها بذكاءٍ مستطير ولكن بلا ذرةِ عقل.. نعم ستكون بذكاءٍ فائق ولكن لن تكون عاقلة أبدا. كيف سيتفق البشر على السيطرة والحد من هيمنة هذه القوى؟ لا حلَّ إلا بقوانين الأخلاق والدين، وسيكون رجوع عظيم لحالتِنا البشرية العِقـْدية، وبتعصبٍ إيماني بها ولها.. لأنها التي ستميزنا عن الآلة، وتجعلنا نتفق على التحكم في جبروتها..
وسيكون وقتها الإيمانُ بعقائدِنا السماوية هو المسيطر!
عودٌ إلى بدء!