سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
.. كنت عازما الكتابة عن "ناجي الأحمد" العبقري الصغير المشلول الأخرس الذي كتب لي رسالتـَه الأخيرة وهو يحتضر، تلك الرسالة التي هزت البلادَ والعالمَ العربي، وصارت له المراكز والأندية، وطار خطابه لي بأرجاء الأرض.. حتى وصلتني هذه الرسالة فكانت أقوى وأبلغ وأشد تأثيرا، وهي هديتي الرمضانية السماوية.. يا ألله، ناجي وهو في ملكوت الله ما زال يُحيي ما مات من قلبي:
"عمي نجيب الزامل،
أنا اسمي محمود النجار، عمري تسعة عشر عاما، أحد قرائك في فلسطين. أحببتُ سلسلة مقالاتك حول السعادة (وهي مقالاتي الرمضانية لهذا العام في جريدة "اليوم") وأثارت فيّ الذكريات، فوددتُ مشاركتكَ قصتي القصيرة..
عندما سرق الأعداءُ بلدي، سرقوا مني أشياءَ كثيرة .سرقوا بيتَ طفولتي الذي أحببته، سرقوا روح أبي المناضل. وسرقوا مني رجليَّ القويتين حين أتلفوهما حتى وجَب بترهما، وبالثالثة عشرة صرتُ.. بلا رِجلـَيـْن.
لقد أصبحتُ مشحونا بالغضب المقهور والمظلوم والثائر، حزينا لأنني لم أعد أُعْرَفُ إلا بعلامةِ نقصي. "من؟ محمود ؟ هل تقصد ذلك الفتى بنصف جسد ؟"، وتمر الأيامُ ثقيلة على قلبي، حتى أتى اليومُ الذي اكتشفتُ فيه مدوّنةً إلكترونية صاحبها معوقٌ موهوبٌ يُدعى.. "ناجي".
راسلتُ "ناجي" طامعاً بالتعارف، أو طامعاً بالمواساةِ من شريكٍ لي في همّ الإعاقة ويفتح لي "الأستاذ" صدرَه، ويُدخلني قلبه من الرسالة الأولى. أقول "الأستاذ" لأنني أحببتُ موضع التلميذ بين يديه منذ الحرف الأول، ولأنني كنت بانتظارِ رسائلِه اليومية، أنتظر درساً جديداً في السعادة، وأعجب لهذا العظيم الذي يحوّل كل سوءٍ في حالِهِ إلى نِعمة، وكل حزنٍ في قلبه إلى نافذةٍ للفرح..
كيف يكون ناجي إيجابياً لهذه الدرجة وهو يخبرني أنه يفضّل الكرسي المتحرك اليدوي على الكهربائي، لأن عضلات ذراعيه صارت أقوى، وأن هذا التمرين يفوت الكثير من الأصحاء، ويخبرني كيف كان يشعر بحلاوة الانتصار حين يكون قـَطـْعُ الشارعِ واعتلاءُ الدرج وتجاوز العتبات تحدياً له ولدواليب كرسيه، فيحوّل مشاعرَ البغض تجاه كرسيي المتحرك إلى محبةٍ وسعادة لا نظير لهما، يحوّل مشهدَ العجز التراجيدي إلى مشهدٍ كوميديٍ ساخر، ويقول لي: "عليك ألا تبالي بنظراتِ الشفقة التي يوزعونها حولك، فهم في الحقيقة يحسدونك، واسمح لي أن أكون أكثر الحاسدين لك(!) فأنت بلا رجلين، ولا تحمل مثل الجميع عبءَ شراء أزواج الأحذية والجوارب.. أما أنا فمضطرٌ إلى دخول محال الأحذية بكرسيي المتحرك، ومكافأة رجليّ المشلولتين جزاء كسلهما ورقودهما الأبدي بحذاءٍ جديد كل فترة! هه، هكذا يحكم القويُ الضعيف "!
أما حين أخبرته يوماً بأنه أسعد مني بالتأكيد لأن له جسداً كاملاً، وله رجلان كاملتان لا يفتقدهما كل صباح، جاءني منه عتابُ المحب: "السعادة في القلب يا محمود، وليست في الرجلين". حين كان يؤلمني الناسُ بإطلاق الأحكام الظالمة علي، وحين كان يصيب ناجي نفس الألم كنا نقرأ معاً كلمات جبران التي كتبها حين "وُلدت كآبتـُه، وماتت مسرّته" ونذرف دموعَ التأثر معاً، ثم كان يسألني أن أعاهده برعاية سعادتي جيداً كي لا تموت كما ماتت مسرّة جبران..
علمني ناجي أن السعادةَ هي الرضا، وأنها استشعار القيمة أو إيجادها، وقد أوجدَ فيّ القيمة حين وهبني عشقَ القراءة، وعلّمني فنّ الكتابة، وأعطاني فرصَ التحاور العلمي والأدبي والفلسفي معه، حتى أنساني رجليّ المفقودتين، وزرع في عقلي "القيمة الحقيقية".
لم أعلم بأن ذلك الشابَ الذي يراسلني، ذلك الأستاذ المتفائل والباسم والسعيد كان أكثرعجزاً جسدياً مني إلا حين جاءت مقالاتك في الصحف، وعلمت منها بأنه كان "أخرس" كذلك، ولم أكد أصدّق . فقد كان "يتغنى" لي بسعادةٍ جبارة ليلَ نهار، أستاذي ناجي هو نجمي المضيء. وهو معلّمي الأول في السعادة..
و اليوم في الثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك، وفي الذكرى السنوية الأولى لرحيل ناجي إلى السماء، أهديه سعادتي التي خلقها في روحي من العدم.. السعادة الأبدية إن شاء الله".
من: تلميذ ناجي، السعيد على كرسيه المتحرك:
محمود النجار
*ملاحظة: ربما يجب أن أخبرك بأننا قد قررنا "أصدقاء ناجي" وعائلته تقديم هدية متواضعة لحضرتك في الذكرى السنوية لرحيل ناجي، لكن عائلة ناجي تقيم في المانيا لعلاج والدهم المريض منذ وفاة ابنهم وحتى الآن ولم يتم لنا التوفيق الكامل في إتمام تلك الهدية حتى اللحظة، لأننا نريدها بشكلٍ مثالي .أريد أن أشكرك بشدة على وقفتك العظيمة مع ناجي، وأعتذر منك بشدة أيضاً لأنه شكر متأخر، أما ما يخفف عنا جلد الضمير، فهو كون الدعاء لحضرتك الوِرْدَ اليومي لنا جميعاً طيلة هذا العام".
يا بني يا محمود، أنت أحلى وأثمن وأجمل هدية.. ورحمك الله يا ناجي يا قبساً نورانيا باقيا.