نثريات الخميس "4"

سنة النشر : 01/01/2015 الصحيفة : الاقتصادية

 

نثريات الخميس - 4

- الشجاعة الأدبية والمبدئية أضعها على رأس الأخلاق. مهما ملكت من الفضائل، إن لم تكن شجاعا، فلن تستخدمها أبدا. والشجاعة الأدبية تتسم بحكمة واتزان عقليين. يعني أن الشجاعة المنطلقة لا تعتبر شجاعة، فتنقلب تهورا هنا. كما أن الشجاعة تستلهم من الحكمة الاتزان، ومنطق وتسبيب الأحداث، ووزنها، وعدم التسرع حتى تُفهم أي قضية أو أي أشخاص بينهم خلاف في قضية أن يضع الشجاع نفسه في مكانهم ويعيد الرؤية من جانب كل واحد أو من كل فكرة، فتجتمع عنده كل المناظر ليكون مشهدا واحدا عدليا، لتجهر شجاعته بالحق.. بلا وجل.

- انظر هذه المناظر الطبيعية الجليلة الباهرة. الطيور تقطع آلاف الأميال في طيرانها فوق الجبال والبحور والبراري ذهابا وإيابا عبر الفصول، بل إن عصفور الهزار يترك عشه في غصن صغير في شجرة، والشجرة في دغل، والدغل في غابة مترامية ثم يهاجر بعيدا عن عشه ويعود له بالمليمتر الواحد.. أي يعود ولا يبحث. سمك السلمون يقوم بأعجب وأشجع رحلة بحرية قام بها أي مخلوق على الإطلاق، وبدرامية حزائنية مثيرة وهو يعاكس التيارات ويقفز فوق مساقط المياه الثلجية الهادرة ويكرر ذلك بشجاعة منقطعة النظير فتنسلخ جلودها ويصير النهر أحمر من الدم، فقط لإكمال الرحلة الشاسعة.. كل دورة حياته. ويسلك السلمون بدقة الطريق نفسه عبر الأنهر المتجمدة إلى المحيط الأطلنطي الواسع إلى البحر المتوسط، ثم يعود بأدق من جهاز قياس بحري. وسرطان البحر إذا فقد مخلبا يعرف أنه قد ضاع شيء من جسمه فيسارع لتعويضه بتنشيط الخلايا وعوامل الوراثة. ومن يعرف دودة الطعم وهي من أعجب العجائب إذا قطع رأسها بادر تخطيطها الجيني الإحيائي إلى صنع رأس جديد. ولا أمل في قراءة عجائب النمل وأتوقف كثيرا عند عبقرية نملة تجمع الحب ثم تفلق كل حبة نصفين حتى لا يدركها ماء أو بلل فتنبت فلا تستطيع الاستفادة منها. وهنا أتأمل في قوله تعالى: "والذي قدرّ فهدى".

ـــ من يدرس في تاريخ علم النفس وعلم النفس التشريحي، سيجد أن علماء سابقين من مئات السنين تكلموا عن هذين العلمين. فشرّحوا العقلَ حسب نوع وطبيعة القلق العقلي وتعسفاته وخروجه عن النمط المنطقي. أي أن هؤلاء العلماء عرفوا الظواهر العقلية التي يكون منها الذهان وضياع الذاكرة واختلال الاتزان المنطقي في الحكم على المنظورات، أو الاختباء داخل عالم عميق كبئر لا يخرج منه الإنسان يكتبه ويصوره ويخرجه له عقله. وسموا المظاهر العقلية المرضية بالمناخوليا، وهي من الكلمة اللاتينية بنفس اللفظ إلا أن الغربيين غير اليونانيين لا ينطقون الخاء، فشاع اسمها بالغرب بـ "المناكولي". وعلماء الغرب عنيوا بالتاريخ النفسي واعتنوا بتاريخ العصر العلمي الإسلامي الذهبي، ونهلوا منه ما شاؤوا، وذكروا ذلك.. لو نقرأ. فمن أبرز ما يضيء في تداوينهم "أبو زيد البلخي"، وعاش إبان الفترة الذهبية "يعني قبل غزو المغول في القرن الحادي عشر الميلادي" وأرجو من يهتم بعلم النفس أن يقرأ ما كتبه البلخي في الأمراض العقلية "وسماها علل العقل" وتحدث عن العقل الواعي، وكنت معجبا قديما به وأزعم أنه رائد مدرسة لم يعلن عنها هي مدرسة العقل الباطن، مع أنه لم يذكر ذلك العقل صراحة، ولكنه ردد في بحوثه عن "العقل الظاهر" مما يعني منطقا أن هناك عقلا خفيا. ويؤكد البلخي أنه هناك دوما العلاج متى تناسقت ثلاثة عوامل بدقة وأخذ مسمياتها من القرآن الكريم "وستجد أنك لو قرأت في كتاب عن البلخي عند باحث غربي ستجده يبحر في قدرة القرآن العجيبة بالتعامل مع التوازن العقلي" هذه العوامل هي النفس، والقلب، والعقل. ويقول البلخي: "لا يستطيع أي طبيب أو نطاسي ماهر أن يعالج أي مرض عقلي إلا بالبراعة باستخدام هذه العناصر الثلاثة". وأنا أوافق عمنا البلخي.. وماذا عنكم؟