نثريات الخميس "2"

سنة النشر : 11/12/2014 الصحيفة : الاقتصادية

 

نثريات الخميس ــ 2

أستاذي جاسم: آسف، لم أجتهد لأعرفك

"غيّر أفكارك نحو العالم .. وسيتغير أمامك العالم".

- لا أدري أين قرأتُ هذه الجملة لكنها قطعا من الشعر الإنجليزي: "من يقول إن أشعة الشمس فقط هي التي تجلب السعادَة، لو جرب الرقصَ تحت المطر لأعادَه، وأعادَه". أعجبني هذا البيت - وأظنه للشاعر الإنجليزي المرهف "جون كيتس" وبحثت في "النت" ولم أجد- "جون كيتس". مات صغيرا وتعرض لأقسى الآلام من كثرة الأمراض التي حاقت به، إلا أنه بقيَ في الإرث الأدبي الإنجليزي شاعر السعادة، والتفاؤل والحب. أحب فتاة وأحبّته، وأخلص لها وأخلصَتْ له.. ورغم كل العواقب والموانع والظروف ذهبت إليه في إيطاليا لمّا نصحه الأطباءُ أن يستشفي بجو أدفأ من ذات الرئة التي قتلته. ذهبت إليه الفتاة رغم رفض أسرتها المحافظة ومجتمعها، وتزوجته مريضا منهكا.. ثم مات بين يديها. مات جون الشاب عن 26 عاما بين يدي حبيبته، وكانت آخر كلماته.. "ما أسعدني، أذهب لربّي عن طريقك".

- اعرفْ الشخصَ جيدا قبل أن تحكم عليه، حتى لو عاداك. وأنا أقرأ سيرة أبراهام لنكولن، وقفت عند هذه الجملة وهو يتكلم عن شخص يعارضه: "أنا لا أحب ذلك الرجل.. لذا علي أن أجتهد لأتعرف عليه أكثر". فعلا والله. أخبركم قصتي التي تثبت هذا القول. في مدرستي الابتدائية كان مديرنا جاسم الأنصاري، وكان الأستاذ جاسم مهيبا طويلا ضخما صارم الملامح، ويحمل عصاه الخيزران - مع أني لا أذكر أنه ضرب بها أحدا- ويدور علينا أثناء الحصص ليراقب كيف تسير الدراسة في الفصل، فننتفض خوفا، وقبلنا يكون المدرس في حالة جمود كامل من الرعب. وكنت أقوم فزعا من نومي أحيانا من كوابيس أرى فيها الأستاذ جاسم. ثم انتقلت للمتوسطة واحتفلت مع زملائي بأن مرحلة الأستاذ جاسم مرت وانتهت.. بلا عودة. ولكنها عادت! صارت المدرسة المتوسطة سائبة بلا مدير صارم فطلبت الإدارة المشرفة في "أرامكو" – وكانت تقوم على مدارس ضاحيتي الصغيرة - من الأستاذ جاسم أن ينتقل للمتوسطة، وسقط في قلوبنا الهولُ والجزع. وبقي في مخيلتي الأستاذ جاسم رعبا يصاحبني، وهيبة لم تغرب أبدا كمثال للقسوة والصرامة. قبل سنتين كنت في رأس تنورة (رحيمة) وسألت عن أستاذنا جاسم وقيل لي إنه متقاعد في بيته، وبعد كل هذه السنين ما زال في صحته وعافيته حفظه الله. زرته ورعب ذاك التلميذ الصغير بدأ يستولي علي. استقبلني أستاذي جاسم بالعناق، ولم يزل يده عن يدي وبكينا خلال اللقاء فعرفت نفسه الداخلية المحبة، وكيف كانت صرامته يتصنّعها من أجلنا حتى لا نهمل ولا تفسد أخلاقنا. قضيتُ وقتا معه تمنيت ألا ينقضي، وخرجت باسما بعد أن حضنني طويلا. كل الأمر أني لم أجتهد لأتعرف على أستاذي العظيم.

- ما زال عالمنا مليئا بالأسرار والغرائب. تعمق جيدا في التاريخ، حملق قريبا في العلم، وستدرك هذا القليل في المعرفة. ما زلنا لا نعرف إلا القليل عن كوننا، ما سرّ أحجار "كارناك" الواقفة؟ وسر المدينة المكسيكية تيوتي هاكان؟ وأهرام مصر؟ لماذا ننام؟ لماذا نحلم وكيف؟ وكيف نكبر ونموت؟ كيف جاء هذا الكون؟ وكم سيبقى؟ هل هناك حياة وراء المجرات؟ ما زلنا محدودين.. جدا. ويبقى العلمُ الأكبر عند العالِم الأعظم، سبحانه.