سنة النشر : 30/09/2008 الصحيفة : اليوم
.. عيدكم مبارك، إن شاء الله..
هاهو المقالُ الأخيرُ في مقالات «سعي نحو السعادة» الرمضانية، عسى أن تكون السعادة مظلتكم الدائمة.. هناك شخصياتٌ إنسانية استثنائية قرأتُ كتبهم، أو قرأتُ عن سيَرهم، فأتعلم كيف تـُبنى الشخصياتُ والأفكارُ والعقائدُ والمبادئُ خطوة خطوة، حجَرة حجَرة، وكأن الشخصية الإنسانية بناءٌ هندسي لا يكف عن التغير والتبدل والتشكل حتى يصل لمعمارِهِ الأخير.
أنظر إلى هذا الفتي الذي تبقى رائحة طنافسِه وحرير عباءاته ساعات بالسكة التي يسلكلها.. هذا الفتى المشرقُ بالجمال والنيافةِ والتيهِ يسحب ذيلَ ثوبـِه النفيس ويدوس عليه فيتمزق ولا ينحني ليخلصه من حذائه تيها وصلافة وأناقة..
هذا الفتى الذي يدفع فتيانُ أشراف القوم ملابسَهم لمن تشرف على غسيل ملابسه كي تكتسب من عطره النادر الذي يبقى أياما يضيعُ في المكان وكأنه سُكِب لتوٍّه..
ثم يتزوج أشرف وأجمل بنات أعظم أمة على الأرض في ذاك الزمان، بنت الملوك وأخت الملوك، فاطمة بنت عبدالملك ولم تكُ أقل منه شرفا ونسبا وثراء واستعراضا وتيها وعلو كعبٍ بالأناقةِ المفرطة مع جمال وبهاءٍ طارا بالأرجاء.. فجأة يُبلـّغ الفتي التيـّاهُ بعد موتِ الخليفة عبدالملك بأنه الخليفة الجديد.
اختفى ثلاثة أيام ليعود لزوجته رثّ الثياب خشن المظهر.. فقد سلم كل ما يملك لبيت مال المؤمنين، وأخبر زوجته بأن لها الخيار بأن تـُبـْقي ثروتـَها وعزها ولكن تخرج من عصمته، أو تبقى معه بدون الرفاه لتعيش على بساط مرقع، فقد سلـّم أيضا القصرَ الذي هم به.. ولما اختارت أن تعيش معه على الضنـَك، طالبها أيضا بأن تسلم لبيتِ المال كل جواهرها من أبيها ومن إخوانها وهدايا وصلتها من أمراءٍ وملوكٍ بأصقاع الأرض.. وعاشا كأفقر من في امبراطوريتهما العظيمة، وكان يصلح دوما جدار بيته المتداعي كي لا ينهد علي من فيه.
السعيد من يكون مثل الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز.. والسعيدة من تستنير بزوجته المحبة فاطمة. ولما مات عمر، جاء إخوتها ليردّوا لها الجواهرَ والنفائس، فردتهم وقالت: «ما كنت لأسترد وهو ميت ما أعطيتُ وهو حي»، ومضت تكمل حياتـَها بما عوّدها عليه الزوجُ الحبيبُ، وتبعـَته راضية بمدةٍ قصيرة.. وهي تردد كيف قال لها لما تغيّر: «إني طمّاع، طمعت بالثروة فأتتني، وطمعت بالخلافة فأتتني.. والأن أطمع بالجنة!»
وانظر لهذا الفتى محمد بن الحسن بن موسى، الملقب «بالشريف الرضي» الشاعر الرصين، ويتصل نسبه لموسى الكاظم والحسين بن علي بن أبي طالب، فعُرف أيضاً بالمـَوْسَوي، وهو لا يفرق بين مسلم ومسلم ، فيرثي الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز (على ما بين البيتين من خلافٍ في السياسة والنـَّحلة) قائلا: ولو أني رأيتُ قبرَك لاستحْيـَيْتُ من أن أُرَى وما حيـَّيْتـُك وقليلٌ أن لو بذلتُ ماءَ البُدْن حزناً على الذَّرى وسقـَيتـُك ما أسعدنا لو تراضينا وتسامحنا كما فعل.
ما الذي غير «صموئيل جونسون» أعظم من انجبته الأمة الإنجليزية في أدب لغتها، وصاحب القاموس الأشهر باسمه.. إلا صديقه الأديب «أوليفر جولد سميث» المتعفف من أي جائزةٍ من أثرياء القوم وكبار المتمترسين بالمناصب، فكان يشكو لصديقه الكبير من أرقٍ يعتريه، وجونسون يقول له ويلحّ بأن يخفف في الأكل قبل النوم.
بعد ايام عرف جونسون أن «سميث» مات من الفاقةِ.. جوعاً. تعلم جونسون ألا نحكم على الناس من حيث نقف، وبعدها قال: «علمني موت صديقي الحزن لفقدان صديق.. والسعادة بالأنفـَة.» مرة أخرى..
عيدكم مبارك!