سنة النشر : 27/09/2008 الصحيفة : اليوم
.. رسالة وصلتني بعنوان: «السعادة: أن تسير على كرسي متحرك» أوقفـَتْ قلمي، وحركـت كل مشاعر روحي: «عمي نجيب الزامل، أنا اسمي محمود النجار، عمري تسعة عشر عاما، أحد قرائك في فلسطين .
أحببتُ سلسلة مقالاتك حول السعادة، وأثارت فيّ الذكريات، فوددتُ مشاركتكَ قصتي القصيرة.. عندما سرق الأعداءُ بلدي، سرقوا بيتَ طفولتي الذي احببته، سرقوا روح أبي المناضل . و سرقوا مني رجليَّ القويتين حين أتلفوهما حتى وجَب بترهما، وبالثالثة عشرة صرتُ.. بلا رِجلـَيـْن.
لقد أصبحتُ مشحونا وحزينا لأنني لم أعد أُعْرَفُ إلا بعلامةِ نقصي. «من؟ محمود ؟ هل تقصد ذلك الفتى بنصف جسد؟»، وتمر الأيامُ ثقيلة على قلبي، حتى أتى اليومُ الذي اكتشفتُ فيه مدوّنةً إلكترونية صاحبها معاقٌ موهوبٌ يُدعى.. «ناجي».
راسلتُ «ناجي» طامعاً بالتعارف، أو طامعاً بالمواساةِ من شريكٍ لي في همّ الإعاقة. ويفتح لي «الأستاذ» صدرَه، و يُدخلني قلبه من الرسالة الأولى .
أقول «الأستاذ» لأنني أحببتُ موضع التلميذ بين يديه، ولأنني كنت بانتظارِ رسائلِه اليومية، أنتظر درساً جديداً في السعادة، وأعجب لهذا العظيم الذي يحوّل كل سوءٍ في حالِهِ الى نِعمة، و كل حزنٍ في قلبه إلى نافذةٍ للفرح.. كان ناجي إيجابياً عجيبا، فهو يخبرني أنه يفضّل الكرسي المتحرك اليدوي على الكهربائي، لأن عضلات ذراعيه صارت أقوى، و أن هذا التمرين يفوت الكثير من الأصحاء، ويخبرني كيف يشعر بحلاوة الانتصار حين يكون قـَطـْعُ الشارعِ واعتلاءُ الدرج وتجاوز العتبات تحدياً له، فيحوّل مشاعرَ البغض تجاه كرسيي المتحرك إلى محبةٍ و سعادة لا نظير لهما، يحوّل مشهدَ العجز التراجيدي إلى مشهدٍ كوميديٍ ساخر، ويقول لي: «عليك أن لا تبالي بنظراتِ الشفقة التي يوزعونها حولك، فهم في الحقيقة يحسدونك، واسمح لي أن اكون أكثر الحاسدين لك(!) فأنت بلا رجلين، و لا تحمل كما الجميع عبءَ شراء أزواج الأحذية و الجوارب.. أما أنا فمضطرٌ لدخول محلات الأحذية بكرسيي المتحرك، ومكافأة رجليّ المشلولتين بحذاءٍ جديدٍ كل فترة! هه، هكذا يحكم القويُ الضعيف «! أخبرته يوماً بأنه أسعد مني بالتأكيد لأن له جسداً كاملاً، و له رجلين كاملتين لا يفتقدهما كل صباح، فجاءني منه عتابُ المحب : «السعادة في القلب يا محمود، وليست في الرجلين».
حين كان يؤلمني الناسُ بإطلاق الأحكام الظالمة علي، وحين كان يصيب ناجي نفس الألم كنا نقرأ معاً كلمات جبران التي كتبها حين «وُلدت كآبتـُه، وماتت مسرّته» ونذرف دموعَ التأثر معاً، ثم كان يسألني أن أعاهده برعاية سعادتي جيداً كي لا تموت كما ماتت مسرّة جبران.. علمني ناجي أن السعادةَ هي الرضا، و أنها استشعار القيمة أو إيجادها، و قد أوجدَ فيّ القيمة حين وهبني عشقَ القراءة، وعلّمني فنّ الكتابة، وأعطاني فرصَ التحاور العلمي والأدبي و الفلسفي معه، حتى أنساني رجليّ المفقودتين، وزرع في عقلي «القيمة الحقيقية «.
لم أعلم بأن ذلك الشابَ الذي يراسلني، ذلك الأستاذ المتفائل والباسم والسعيد كان أكثرعجزاً جسدياً مني إلا حين جاءت مقالاتك في الصحف، وعلمت منها بأنه كان «أخرس» كذلك، ولم أكد أصدّق، فقد كان «يتغنى» لي بسعادةٍ جبارة ليلَ نهار،أستاذي ناجي هو نجمي المضيء.. ومعلّمي الأول في السعادة. و اليوم في الثالث و العشرين من شهر رمضان المبارك، الذكرى السنوية الأولى لرحيل ناجي إلى السماء، أهديه سعادتي التي خلقها في روحي من العدم.. السعادة الأبدية إن شاء الله.
قررنا «أصدقاء ناجي» وعائلته تقديم هدية متواضعة لحضرتك في الذكرى السنوية لرحيل ناجي، ولكن عائلته تقيم في المانيا لعلاج والدهم المريض منذ وفاة ابنهم، و لم يتم لنا التوفيق بإتمام تلك الهدية بشكلها المثالي.. أما ما يخفف عنا عتابَ الضمير، فهو كون الدعاء لحضرتك الوِرْدَ اليومي لنا طيلة هذا العام. من: تلميذ ناجي، السعيد على كرسيه المتحرك: محمود النجار.»