سنة النشر : 03/09/2008 الصحيفة : اليوم
رصدتُ في دولةٍ فقيرة أمراً شائعا. من عادتي عندما أصل عاصمة تلك الدولة، وبعد الانتهاء من انشغالاتي، أن أقصد مكتبة صغيرة ( أشعر، وأنا بها، وكأني على قطعةٍ من أرض السعادة.) فأشتري بعض الكتب، ثم أقصد مقهى صغيرا يعدُّ مشروبي المفضل «شاي الحليب المبهّر»، وأستغرق في القراءة، وهوايتي الأخرى.. النظرُ في الناس ورصد طباعهم.
لاحظت بشكل عجيبٍ انتشار الابتسامة بين الرائحين والغادين حولي من كل الأعمار، وبعضها قهقهات عالية، فيكون المجمّعُ وكأنه محفلٌ للضاحكين، أو مؤتمرٌ لاستعراض الضحكاتِ والابتسامات.. هؤء الرائحون والغادون معظمهم لا يملك نِكلةً في جيبـِه، فيتحلقون حول نوافذ عرض المحلات، والبسمة لا تغيب. وبعضهم يروح ويجيء فقط حتى تغيب الشمس لأن الطقسَ في الخارج حار، ولو ذهبوا لبيوتهم الصغيرة فإنهم سيعانون ثقلَ الحرِّ والرطوبةِ الاستوائيّتين، فيتنعمون بجوِّ المجمع التجاري المكيـَّف حتى تلطف نسائمُ المساءِ ويغادرون، ومع ذلك، لا تغيب الابتسامة..
وتزور أسواقَ الدنيا الغنية والناس أعرض ثراءً، ومنهمكين بعمليات شراءٍ «حقيقية»، ومعظمها كماليات زائدة، والوجوهُ واجمةٌ، وكأن الابتسامة لأنها لا تباع على الرفوف فلا أحد يستخدمها..
ما السر؟
يثبت أن السرَّ ليس ماديا، لا تكفي الثروة أن تجعلك سعيدا، ولا تكفي سيارة فارهة أن تجعلك سعيدا، إن لم تكن قادرا على ممارسة السعادة. السعادة منحة ربانية كونية نفيسة من يملكها فهو المحظوظ حقا، ومن يفقدها فعليه جادا أن يبحث عنها..
وجد الرواقيّون ( من فلاسفة أثينا الأقدمين) أن السعادة هي الخير، أي أن تكون فاضلا أو تعمل الفضيلة، فمن يُقـْدِمون على أعمال الفضيلةِ هم ناسٌ سعداءُ الطويـَّةِ، وهذا طريقٌ مثبت للسعادة الحقيقية أن تكون فاضلا خيِّرا.. وأجمل ما نعرف في السعادة من الإرث الإسلامي، وهو ما اعتنقه «كارنيجي» صراحة، ثم معظم فلاسفة السعادة، خصوصا كتابٌ انتشر بالانجليزية والتهمَ الرفوفَ لقسيسٍ مسيحي قبل خمسين عاما اسمه الدكتور «نورمان بيلي»عن اكتساب السعادة بالتفكير الإيجابي، وصار الكتابُ أيقونة العقود التي بعده، ولم يخرج عن دائرةِ القناعة التي وصى بها الإسلام، فالنـَّظـَرُ إلى ما يملكه ويحققه الآخرون هو الشقاء، والاكتفاء بما تملك والسعي بالعمل الحثيث للحفاظ عليه هو السعادة الكبرى، وفي الطريق سيتحقق شيئان: أن ما تملك قد زاد، وأن القناعة صارت طبعا متأصلا.. فثـُتبـَّتُ في نادي السعداء.
واكتشف الإنسانُ من الأزلِ أن طريقاً من طرق السعادةِ النوارنيةِ هو الإيمان. الإيمانُ الصادقُ العميق، كـُتـِبَ بأوراق البردى وفي نحوت الهيروغليفية أن السعادة الأبدية بالإيمان، وهم لم يعرفوا الإيمان الديني السماوي، وكان «اخناتون»، أول من جاء بالتوحيد في الديانات الفرعونية، يطالعُ الشمسَ ( معبودته الوحيدة) ويصرخ على كهنته: «أترون؟ أني أسبحُ في نهر السعادة.» والملحماتُ السريانية وحضارات ما بين النهرين تحكي عن فتيات المعابد اللاتي يُسـَخـَّرْنَ لخدمةِ الكهنة، واسموهن «السعيدات»، لأنهن يعتقدن أنهن اختِرْن لأقدس مهنة.. إنه الإيمان.
والأديانُ السماوية حثت على السعادة، ولما انحرف معتنقوها فإنها جلبت الشقاءَ والحروب، لأن التدين الصافي اختلط مع الطمع الأرضي.. وفي الإسلام، وهذا من عند «جوتِهْ» الألماني الذي كتب: «ما أسعد المسلمين.. غطت سعادتهم على شقاوات الدنيا، فبلال بن رباح كان سعيدا وهو يصرخ تحت وطءِ الصخرة الملتهبة.. أحدٌ.. أحد.»
استلهاماتُ السعادةِ قريبة، ولكن القريب الذي لا نراه بالعين المجردةِ، أصعب من البعيد الذي نرصده بالمراصد. لذا قيل: من يدور الدنيا بحثا عن السعادة فلن يجدها.. إن لم تنبع من داخلِه.
والنبعُ الداخلي من السعادة يفيض على الآخرين أيضا.. فقد تسعد نفسك بتحقيق ما تريد.. وقد تسعد نفسك بتحقيق ما يريد الآخرون. ومن هنا فمتطوعو الأعمال من السعداء، وهذا هو سر وجود اربعة آلاف متطوع صغير سعيد في برنامج منارات العطاء.
مدّ يدَك وتناول سعادتك.. ولك الخيار ألا تفعل، فتشقى..
وفي المقالاتِ القادمة أحكي لكم قصصا واقعية عمن أسميهم «مكتشفو السعادة.»