سنة النشر : 05/05/2016 الصحيفة : الاقتصادية
.. في عالم التطوع هناك أفراد خياليو العطاء، أطلق عليهم مسمى "شموس تمشي على الأرض". وهؤلاء الأفراد هم من يغيرون حالة المجتمع إلى الأفضل، وهم العاملون على سد الشقوق والفجوات في المجتمع، في سبيل تعزيز صلابة وحدته الإنسانية. هؤلاء الناس لا يسعدهم في الدنيا ولا يريحهم ولا يرون معنى لأنفسهم إلا بالعطاء أولا ثم بمزيد من العطاء. ناهيك عن القول إنهم لا يجرون وراء مقصد مالي ولا أي غرض مادي كالشهرة مثلا، فالأعمال المنيرة تقود في النهاية إلى السمعة المنيرة، أراد "الشموس" ذلك أم لم يريدوه.. فمن لا يعرف "الشمس"؟
أنبل أنواع الرواد في العمل التطوعي ليس أولئك الذين يسمعون الأصوات العالية للمحتاجين أو من يدعون الحاجة، إنما هم أولئك الذين يسمعون همس الضمير، أصوات صغيرة منقبضة في زوايا أركان الصمت والحاجة الشديدة ثم يتقدمون إليهم ويعلمونهم أن يقفوا ويعتمدوا على أنفسهم ما أمكن تحت طريق الشمس.
هؤلاء الناس قد تقرأ عنهم في الصحف الغربية، ثم نتناقلها بيننا بأشد الإعجاب ونتداول أسماءهم وكأنهم رسل الإنقاذ البشري الجدد، ولا اعتراض لي على ذلك ما داموا فعلا ينفعون البشرية ويسهمون بقوة في رفع آلامها، وإحلال استدامة لمعاشهم وتعزيز لكرامتهم الإنسانية. ولكن هذا لا يعفينا أبدا من أن ننظر في مجتمعنا، ففيه من العاملين المتطوعين لرفع الناس من قاع الحياة الرطب المظلم إلى ساحات النور والبهجة، من قيعان الفقر والحاجة إلى سهول العمل والكسب المستدام، برفع المهارات وصقل القدرات.. ومعالجة الحالات النفسية والفكرية والجسدية.
لما هاتفتني هلا الخباز كانت مستعجلة متحمسة، وصوتها يتابع صوتا آخر داخلها، وأفكارها تتدافع بقوة مولد حماسي وكأنها خارجة من فوز كبير هي فائزته الأولى بتلك النغمة الصوتية التي أترجمها: أنا فرحانة أنا فرحانة، ما العمل؟ العمل أنها تريد مني مشاركتها الفرحة.
وفعلا شاركتها الفرحة، وكانت فرحة كبرى. هذه الفرحة جعلتني أتأخر عن تسليم المقال، لأني بعد مكالمة مع أمل العجلان وأسعدتني، قررت أن أغير المقال، وأكتب عن بطلتنا اليوم.. وهي شمس من الشموس التي تمشي على الأرض.
والمقال بحجمه أو ما تبقى منه سيكون ظالما لمشروع زاه ومهم وخير، بني مع كل حبة عرق وأمل ودمع وجهد ومعاناة بذلت في إقامته، ليرى الشمس رغم كل الإعاقات التي أرادت حجب الشمس. والظلم سيقع على بطلتنا نفسها، التي لو أرادت شهرة ـــ وهي ستأتيها لا محالة، لأن هذا أمر الله ووعده، ولأن الناس في أصلهم الطيب العفوي وخيرهم الغريزي يحبون أن يكونوا مشاركين في هذا الجمال الإنساني والمحفل العاطفي.
أمل العجلان سعودية، كان بإمكانها أن تمضي حياتها في عيش أسهل وتمارس التجارة أو تتمتع بما أتيح لها من وسائل الحياة.. لكنها لحسن حظ هذا المجتمع كانت أمل شمسا من تلك الشموس، ولم تستطع أن تشعر بالراحة وهي ترى الأطفال الذين تعرضوا لاضطرابات ذهنية خصوصا التوحد في طيفه الواسع، فباعت استثمارا خاصا لها وقررت أن تنشئ مركزا متقدما لهؤلاء الأطفال. الجملة التي قالتها لي أمل وأوقفت عواطفي على رؤوس أصابعها هي "أُسر هؤلاء الأطفال يعانون كثيرا فهل أيضا نضيف إليهم حملا ثقيلا لا يتحملونه وهو أخذ رسوم منهم مقابل علاج أطفالهم وتأهيلهم وتدريبهم لمستقبل أفضل"؟
أنشأت أمل - بجهدها الوحيد ماليا ومعرفيا، حيث إن لها خبرة في المجال منها خبرة رسمية لعقد من الزمان في وزارة الشؤون الاجتماعية - مركز أبطال المعرفة، المجهز كما وصفت لي هلا الخباز وكأنه سبعة نجوم، بينما تصر أمل على أنه بسيط، لكن الناتج الذي رأته أمل بعينيها ومن معها من العاملات خلال أربعة أشهر من تحسن في نتائج الأطفال كان بمنزلة القطاف المبكر. وما هذا إلا تصديقا لقوله تعالى "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون".
لم أقل شيئا بعد عن أمل العجلان، ولا عن المركز، ولا النتائج، ولا عن قصص صارت به تستجلب الدمع عبر مآقي العيون.. لكنها تلك الدموع التي تغسل القلب، فتزيل عنه ما علق به من كدر.