أعطوا التطوعَ فرصة

سنة النشر : 27/12/2010 الصحيفة : الاقتصادية

 

.. أحب هذا الرجل كثيرا الدكتور عبد الرحمن السويلم، وهو من العقول السعودية البارزة، ولكني أحبه لضميره ربما أكثر من عقله، فهو عاملٌ رئيس وراء إعادة وضع نظام العمل التطوعي الجديد في إطار يواكب العملَ الحقيقي على الأرض الحالي، ومرونته لاستيعاب المستقبل ..

ورأيت في زملائي في لجنة الشؤون الاجتماعية والأسرة والشباب، اجتهادا غير عادي في إعداد ودراسة وإعادة دراسة النظام أكثر من مرة، كان التصميم منهم أن النظام يجب أن يخرج وبأسرع وقت، لأهمية العمل التطوعي حيويا واستراتيجيا للأمة ولشبابها. وفي القسم الآخر من دماغ كل منهم أن يخرج أيضا دقيقا وافيا وكافيا .. وفي نقاش النظام شاعت روحٌ عمّت كل من تحت القبة في الجلسة الرئيسة في الشورى، الجميع تلبّس روحا تطوعيا، وكان نقاشا جميلا، في يوم جميل، لعمل جميل ..

يجب أن يعطى التطوع فرصة ..

فالتطوع سيغير وجه البلاد، وسيضيف جمالا ومرونة وإنجازا وأبعادا للمجتمع كافة بكل شرائحه. إن التطوع المنتظم والمؤسس والمنسق، هو في رأيي أول أرض خصبة لإنبات الإبداع الفكري والعملي والمشاريعي في شبيبة الأمة، وستتغير هذه البلاد بانتشار العمل التطوعي الميداني عبر مدنها وقراها، وهذا التغير سينقلها عبر مفاهيم عصرية مرنة ومتجددة مثل تيار أول منابع الجبال، حيث تهدر شلالات من المياه السائغة العذبة .. وهذا التغيير سببه فعلا أن الحدود هي السماء، لأن السماء المفتوحة هنا هي المرونة الواسعة، والحافز الإنساني الفردي الخالص، ليس بدافع المكافأة أو المنافسة .. في التطوع يتحرر الإنسانُ من حبال المراسي التي تربطه بجوار البحر والبر، ولا ينطلق إلى كليهما إلا بأمرٍ لهدف، فكأن الهدف هنا من واقع الواجب الأدائي، وليس من من واقع الواجب الإنساني .. العمل التطوعي متى سمح له بالتحليق فإن التحليق ذاته سيكون إبداعا، ومتى سمح له بشق أمواج البحار فإن الإبحار سيكون فنا جديدا .. وكأن الجـِدّة والابتكار هما جناحا التطوع.

فهمنا بالممارسة التطوعية شيئا مهما وجديدا ـــ على إفهامنا على الأقل ـــ وهذا مفيد جدا في الانتماء الوطني والولاء للوطن، بأن الولاء لـ "من" أو لـ "ما" تخدمه، وليس إلى من أو ما يخدمك. خذ مثالا نضربه للشباب حول المفهوم فنقول أن سيارةً لشابٍ يهتم بغسلها عاملٌ أجنبي، لن يكترث الشاب أن تتسخ، فهو هنا مخدوم، ويعرف أن في الغد سيأتي العاملُ وسيغسلها من جديد .. فلا اهتمام ولا اكتراث. ولكن لو قام الشاب بغسلها بيديه، فإنه سيغضب ويثور لو تجرأ أحدٌ وأفسد نظافتها .. أليس هذا ملاحظا جدا؟ إذن هنا مباشرة، وهنا اهتمام، وهنا ولاء، وهنا اكتراث شديد، لأن الشابَ لم يعد مخدوما، بل هو الذي قدم الخدمة لسيارته، واكتشف مدى أهميتها ونظافتها عنده .. الفتاة التي تترك الغرفة للعاملة لترتبها لا تأبه إن عبث أحد بالغرفة لأنها تعرف أن العاملة ستقوم بالترتيب من جديد، ولكن لو هي قامت بتنظيف وترتيب غرفتها فتأكدوا أنها ستقفل بابها في الخروج والدخول منعا للعابثين. انظر كيف صار الانتماء لسيارة ولغرفة لمجرد الخدمة، فكيف بخدمة الأرض والمدينة والناس الذين أنت منهم وهم منك؟! هنا سيصير الولاء أعمق في الجذور.

لاحظنا أيضا فتيانا يحضرونهم أهلهم لشدة مشاكسة في أخلاقهم، أو لارتكابهم أعمالا خاطئة، ومن طبعهم أنهم متمردون وغاضبون .. لما راقبناهم في العمل التطوعي المرسوم المنتظم تحولوا لأشخاص آخرين، تماما على النقيض، وكثير من المجموعات يرأسها هؤلاء الفتية، لأنهم ـــ بطبيعتهم ـــ أشد حماسة وأسرع اندفاعا، هذه المرة في الطريق المفيد ..

إن العمل التطوعي معلمٌ عملاق، يضع تلاميذه على أكتافه فيصيرون عمالقة، ولكن الشيء المهم، أن هؤلاء التلاميذ لما ينزلون عن كتفي المعلم الكبير لا يعودون أقزاما!

ستجدون أن العمل التطوعي سيقدم حلولا عملية وسيسهم في تطبيق الحلول في مشاكل كبرى في البلاد، منها التعطل حتى لا نقول فقط البطالة .. فجمعية مثل جمعية الملك خالد في الرياض، من أكبر استراتيجياتها تحقيق برامج العصامية للشباب والبنات، وهي تنسق في ذلك مع جمعية العمل التطوعي .. هذا مثال بازغ لجمعية قوية الحضور في مسألة هموم الأمة .. والأمثلة كثيرة.

نحتاج إلى التطوع لتطوير التعليم، وتطوير الصحة، وتطوير التعاضد الاجتماعي، وتعزير البادرة الفردية، وتحفيز الاختراعات وللأعمال والمشاريع الإبداعية في الفنون وفي العلوم ..

كل ما في الأمر .. أن نفتح الضوءَ الأخضر لعربة التطوع المنطلقة .. وأظننا فعلنا!