"سُعاد اسبـَقـْني"

سنة النشر : 14/11/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

.. أؤمن أن وضعَ المال في أعمال الإنماء الخيري سيمدّ صاحبَ المال بمزيدٍ من المال.

وفي مصر.. «سعاد اسبقني»، طفلةٌ من آلاف الأطفال التي تلقيهم القاهرة في شوارعها كل يوم ليكونوا أبناء الأسفلتِ والمذلـّةِ والجهل، وأكبر أُميّةٍ بين الأطفال في العالم العربي. وكانت «سعاد اسبقني» فتاةً صغيرة بشعرٍ أصفرٍ لم يعرف المشط منذ طلع.. بيضاء البشرة، متيبسة ومتشققة من فرط الجفافِ وضرباتِ الشمس، وملاحة الطفولة تطلّ عبرالآلام والإهمال من عينين واسعتين خضراوين ممتلئتين بقذىً تراكمَ على الأجفان.. وكان من عادتها أن تلحق بمن في السياراتِ الذين لم يعطوها الحَسَنة، فتقول وهي تجري بجانبهم بأقصى سرعتها: «مش ح تسبقوني للجنة!»، مرّة تقدمتْ لسيارتِنا تطلب الحسنة المعتادة، وفجأة.. انتفضتْ برعشةٍ كصعقةِ الكهرباء، ثم وقعتْ. خرج أفرادٌ وكأنهم نبعوا من تحت الأرض، حملوها.. واختفوا. أتيتُ عدة مرات أبحث عن «سعاد اسبقني»، ولم أعثر على أثرٍ لها.. ولم يطمئنّ قلبي حتى أقنعتُ نفسي بأنها.. سبقتنا فعلاً للجنّة.

«سعاد اسبقني» التي لم تسعفها أموالُ الخيِّرين كانت على خاطري وأنا في مناسبة أقامها برنامج الطفولة العربية.. قصةٌ من ملايين القصص لشقاء الطفولة في كل مكان على وجه الأرض، وخصوصا في عرصات الميادين وزوايا الشوارع في الحواضر العربية.

ومن قوانين الحياة أن تعطي مسبقاً قبل أن تبدأ بالأخذ، فلا يمكنك أن تنجح بدون أن تقدم الاجتهاد، ولا يمكنك أن تصل إلى أهدافك دون أن تبدأ بالعطاء، فيجب أن تعطي عربتك الوقودَ قبل أن تقلـّكَ لمحطةِ وصولك.. ومن واقع الحياة، وقبل ذلك من وعود الله لنا، أن البادئ بالعطاء يحصد في النهاية أكبر مما توقع أن ينال ويأخذ، أكانت نيتُه أن يأخذَ أم لا. ورأيتُ كيف يجعل العطاءُ الشخصَ شامخاً محترماً محبوباً قانعاً وراضياً عن نفسِهِ، والناس راضون عنه. فآلية الفيزياء تحتّم أن لكل فعل رد فعل، ولكل فعلٍ خيِّرٍ أو شريرٍ رد فعل أكبر ولكن بالاتجاه نفسه.

ووجدتُ أنك لن تعرف العطشَ إلا متى تذوقت حلاوة الارتواء.. لذا فإن محبي العمل الاجتماعي الخيري هم من الناس الذين لا يتوقفون عن سعيهم في مسالك الخير، لأنهم ذاقوا ارتواءً عذباً في الروح والوجدان والوجود جعلهم عطشى له على الدوام.

ومن حقائق الحياة إذن أنك تغتني كلما ازددت عطاءً، فالمحسنون في كل العالم ليسوا هم الأكثر غنى ولكنهم الأكثر معدلات بتزايد الثروات. إنها صداقة المجتمع الوطيدة التي تجعل المجتمعَ يردّ التحية بأحسن منها.. ومنها عندما هاتفني الصديق السيد «ميلان» من أصحاب الأعمال الصغيرة في تركيا ليسألني: «هل تعرف عبداللطيف جميل؟ لقد كتب في الصحيفة اليوم أحدُ الكتاب قائلا:» إن السيد جميل سيكون وكيلا حصرياً لـ «تويوتا» في تركيا وسمعنا عنه أنه يقيم المشاريعَ العملية الخيرية لعامة الناس ويرفع روح العصامية في بلاده، وإن تابع ذلك في تركيا فإني أعلن أني سأشتري سيارة تويوتا.. مع أن عندي سيارة!»، و»ميلان» يُردفُ أنه أيضا متحمسٌ لذلك.. نعم في تركيا!

الأعمالُ والتجارة وسيلتهما المجتمع. ويعلم رجالُ الأعمال الإنسانيون أن سرّ النجاح يجب أن يكون إنسانيا وماديا.. جناحان لا يخفقان إلا معا.

ما معنى الأعمال الصديقة للمجتمع؟ إنها الأعمال التي تتعلق بمساعدة الناس لإنماء واكتشاف مواهبهم وعواطفهم بأرفع كفاءةٍ ممكنةٍ لتحقيق التغيير بحياتهم وحياة المجتمع، وبالذات ابتداءً من الأطفال والشباب، فبينما يقول المثلُ الحكيم: «علـّمه كيف يصطاد سمكة لكي يبقى كل حياته شبعان». تقول العقلية العملية الصديقة للمجتمع: «علمه كيف يبني مشروعا للسمك، ثم علمه كيف يتصل بالسوق، عندها ستبقى قريةُ كاملةٌ كل حياتِها شبعى!»

وقصصٌ من الحياة..

لاقتْ شركة أمريكية صعوبة في ترويج برامجها في وسط الهند، وكانت في الشركةِ الموظفة «لوري» التي زهدت في العمل المادي وتبعت قلبها للعمل الإنساني فذهبت للهند وتقدمت متطوعة لجمعية «ناهي كالي»، وانقطعت عن كل نشاطاتِها في بلادها الأم، هذه الجمعية أنقذت أكثر من ستين ألف طفلةٍ وطفلٍ هنديّ من براثن الجوع والضياع والجهل، فحسّنَت حياتهم، وأرسلتهم للمدارس وأعدتهم للحياة الكريمة.. الذي حصل فيما بعد أن المجتمعَ المحيط صنـّفَ البنت الأمريكية أنها تابعة لشركة البرامج تلك، فأقبلوا على برامجها ونجحت نجاحاً لم تفلح به حملات تجارية بالملايين.. ولما أرادت الشركة أن تعطيها جائزة سنية، قالت: «لقد تبعتُ قلبي، فتبعني المالُ. أعطوا قيمة الجائزة لجمعيتي الخيرية». وهذا ما كان.

واحدة من مؤسسات الجمعية الهندية التي تعنى بالأطفال كان أبوها صاحب مصنع أقمشة ساري، وكان يتعثر بصناعته، وأوشكت على الإفلاس، ولما نضمت ابنته لمؤسِّسات الجمعية، صار حلمُ كل فتاةٍ هندية أن تقتني سارياً من مصنع أبيها، فصار الآن أكبر مصنع أقمشة في «حيدر أباد» الهندية.

أؤمن أن الخيرَ يصنع مزيدا من المال.. وأؤمن أنه هو الذي سيجعلنا نتسابق مع «سعاد اسبقني» إلى الجنة!